أحمد الفقيه العجيلي
لم تكن فاجعة العامرات مجرد عنوانٍ عابر في يوم مزدحم بالأحداث؛ بل كانت لحظة فاصلة كشفت حجم الهشاشة التي يمكن أن تنحدر إليها الأسر حين تتراكم الضغوط ويضيق الهامش، وحين تغيب شبكات الحماية التي يُفترض أن تحفظ الحد الأدنى من الأمان.
ففي ليلة هادئة، وفي بيتٍ ظلّ مغلقًا لأيام، انطفأت حياة أسرة كاملة دون أن يسمع أحد أنينها، ودون أن يلتفت أحد إلى غيابها، حتى تحولت المأساة إلى خبر يصعب على الذاكرة نسيانه. منذ اللحظة الأولى لم يتوقف الناس عند الجانب الفني للحادثة بقدر ما توقفوا عند معناها؛ فالتقارير الأولية تحدثت عن وفاة بسبب استنشاق غاز أول أكسيد الكربون، نتيجة لما قيل إن الأسرة لجأت إلى استخدام مولد كهربائي بعد انقطاع الكهرباء عنها. لكن جوهر القصة كان أبعد من التفاصيل التقنية.
كان السؤال الذي ارتفع في الشارع أشد وضوحًا من أي بيان: كيف يمكن أن تصل أسرةٌ بكاملها إلى هذا الخيار الخطير؟ وما الذي يدفع عائلة إلى استخدام وسيلة طارئة لمجرد توفير ضوء يكفي حاجاتها الأساسية؟
لقد فتح هذا السؤال الباب أمام نقاش أوسع حول الضغوط الاقتصادية المتراكمة التي طالت كثيرًا من العائلات، وحول الإجراءات التي تسببت في رفع تكاليف المعيشة وأرهقت الفئات الأكثر هشاشةً، وجعلت أي اضطراب في الدخل أو الوظيفة يتحول سريعًا إلى أزمة حقيقية.
لم يعد الأمر يتعلق بعجزٍ مؤقتٍ؛ بل بمنظومة لم توفِّر شبكة أمان تلتقط من يسقط، ولا آلية تمنع الانحدار إلى خيارات خطرة. ولم تقف المأساة عند بعدها الاقتصادي وحده؛ بل تجاوزته إلى البعد الاجتماعي الذي بدا أكثر قسوة؛ إذ إن غياب أسرة كاملة لأيام دون أن يفتقدها جار أو ينتبه إليها قريب كشف عن تحوّل في طبيعة العلاقات داخل المجتمع، وعن انكماش في الروابط التي كانت يومًا تمثل خط الدفاع الأول لأي شخص يقع في ضائقة.
كان المجتمع أكثر حضورًا في حياة بعضه، وأكثر حساسيّةً لمن يغيب أو يظهر عليه أثر الحاجة.
لكن هذه الحادثة أظهرت فراغًا مُحزنًا لا يمكن تجاهله. وما أثار القلق أن هذه الفجوة الاجتماعية تزامنت مع فجوة مؤسسية لا تقل خطورة.
فقد تساءل الناس وبحق عن غياب آليات يمكنها التقاط الإشارات المُبكِّرة للأسر التي تمُر بظروف استثنائية، وعن غياب متابعة تكاملية بين الجهات المعنية، وعن سبب استمرار الإجراءات التي قد تؤدي إلى قطع الخدمات الأساسية دون مراعاة الظروف المحيطة ببعض البيوت.
هذه الأسئلة لم تأت بدافع الصدام؛ بل بدافع الحرص، لأنها تكشف حاجة واضحة إلى مراجعة هادئة وشاملة للسياسات المتصلة بالحماية الاجتماعية.
لقد أعادت فاجعة العامرات وضع الإنسان في صدارة النقاش العام؛ باعتباره أساس كل سياسة وهدف كل تنمية؛ فالاقتصاد مهما نمَا، والخدمات مهما تطورت، تبقى قيمتها مرهونة بمقدار ما تحمي حياة الناس وتحفظ كرامتهم. والمراجعات التي تحتاجها المرحلة ليست ترفًا ولا استجابة ظرفية؛ بل ضرورة وطنية لضمان ألا تتحول الضغوط الاقتصادية إلى بوابة لمآسٍ قد تتكرر.
ومن الضروري أن يكون التعامل مع ما حدث فرصة لإعادة النظر في إجراءات قطع الخدمات الأساسية، وهنا لا نتحدث عمّا إذا كان عداد المواطن مُسبق الدفع أو بنظام الفاتورة لاحقة الدفع، علينا أن ننظر في بدائل آمنة تُقدَّم للأسر ذات الدخل المحدود، وفي أدوات الرصد الاجتماعي، وفي قدرة المؤسسات على التدخل قبل أن تتفاقم الأوضاع.
الحماية الاجتماعية ليست مسؤولية جهة واحدة؛ بل منظومة تتكامل فيها الجهات الرسمية والمجتمع، وتستند إلى مبدأ بسيط: لا ينبغي أن يُترك إنسان وحيدًا أمام ضيق الحياة.
إنَّ فاجعة العامرات صرخة مؤلمة خرجت من بيت واحد، لكنها وصلت إلى بيوت كثيرة، وأعادت تذكير الجميع بأن الأمان ليس مفهومًا نظريًا؛ بل تجربة يومية يعيشها المواطن داخل منزله، حين يفتح بابه مطمئنًا، وحين يشعر أن حياته ليست معلقة بفاتورة، ولا مرهونة بقرار إداري، ولا مهددة بسبب خلل يمكن إصلاحه.
من هذه المأساة نخرج بدرس لا يمكن تجاهله: أن الأمان الاجتماعي ليس ترفًا، وأن حياة الناس يجب أن تبقى أساس كل قرار، وأن أي تطوير اقتصادي أو إداري يجب أن يسير بالتوازي مع حماية الفئات الضعيفة، لأن بقاء فجوة كهذه دون معالجة قد يترك أثرًا أكبر مما يمكن احتماله.
نُكرِّر.. فاجعة العامرات مؤلمة، لكنها تحمل رسالة لا بُد من الإصغاء إليها.. رسالة تقول إن المجتمع بكل أطيافه، والجهات بكل اختلاف أدوارها، بحاجة إلى مراجعة جادة تضمن ألا تتحول التفاصيل الصغيرة إلى مأساة أخرى.
والدرس الذي تقدمه هذه المأساة أكبر من الحزن نفسه.. إنها دعوة صريحة لإعادة ترتيب الأولويات، ولترسيخ منظومة حماية تليق بالإنسان الذي بُني هذا الوطن لأجله، وللتأكد أن ما حدث لن يكون بداية لحكايات أخرى مشابهة.
ليس كافيًا ان تبذل قصارى جهدك، يجب أولًا أن تعرف فيما ستبذل جهدك، ثم تبذل قصارى جهدك.
