أحمد عسيلي

لم تكن صور الشرع في البيت الأبيض حدثًا بروتوكوليًا عابرًا، ولا مجرد زيارة لبدء سلسلة من اللقاءات السياسية، على أهميتها. بدا المشهد كأنه علامة على نهاية مرحلة وبداية أخرى، الصورة نفسها حملت دلالة أعمق من مضمون اللقاء: رجل ارتبط اسمه بتيار محدد، يظهر اليوم في فضاء مختلف تمامًا، وينتمي إلى خطاب جديد يتشكل ببطء، ولكن بثقة. لم تكن المسألة في تفاصيل الزيارة، بل في الرمز الذي حملته، هوية رسمية تتبدل، دولة تغير وجهها، وخطاب قديم ينسحب أمام لغة جديدة.

هذا التغير السريع في لغة الدولة يعيد إلى الذاكرة لحظة أخرى كانت فارقة، موت عبد الناصر سنة 1970، ثم صعود السادات الذي قلب هوية مصر رأسًا على عقب خلال سنوات قليلة، كان هناك انتقال واضح من “دولة الثورة” بكل رموزها وشعاراتها وصرامتها، إلى “دولة السلام” التي اختارت الانفتاح على الغرب، والتوقف عن زج نفسها في صراعات العالم كله، والتحرر النسبي من القبضة الأمنية، وتغيير شكل الاقتصاد. التحول لم يكن سياسيًا فقط، كان تحولًا في الروح العامة، في الهوية، في اللغة التي تصف نفسها وتخاطب شعبها والعالم.

ورغم أن المقارنة بين عبد الناصر والأسد غير ممكنة من الأساس، لأن الأول كان يحمل مشروعًا فكريًا واضحًا بينما الثاني لم يمتلك سوى بنية أمنية فارغة، فإن المقارنة تكمن في الجو العام، في ديناميكية التحول، وفي إرهاق المجتمع الذي فتح الباب أمام قبول لغة جديدة. عبد الناصر ترك خلفه مشروعًا ضخمًا انهار في نهاياته، أما الأسد فترك خواء سياسيًا، لكن النتيجة واحدة: ناس أنهكتهم التجربة، وأمام التعب الكبير، تصبح القطيعة سهلة، بل ربما ضرورية.

حين مات عبد الناصر، كان الجيش المصري خارجًا من تجربة اليمن المرهقة، ومُثخنًا بجراح الهزيمة. المجتمع أيضًا كان يشعر بأنه وصل إلى حده الأقصى. خطاب لا يتغير، اقتصاد متعب، ونظام يضغط على كل شيء، لذلك، حين جاء السادات بحركة انقلابية في الخطاب، لم يقاوم الناس كثيرًا، كانوا ببساطة مستعدين ليجربوا وجهًا جديدًا، ولو كان على النقيض التام مما عرفوه لسنوات طويلة، وهذا بالضبط ما جعل “مرحلة السادات” ممكنة: تعب جماعي، وانفتاح مفاجئ، ولغة سياسية جديدة.

سوريا اليوم تقف عند نقطة مشابهة، وإن كانت تختلف في التفاصيل. سنوات طويلة من القمع، والحرب، والانهيار الاقتصادي، وانفجار المجتمع من الداخل، ثم سقوط النظام كله، تركت السوريين في حالة إنهاك عميق، لم تعد هناك قدرة على مقاومة تحولات كبرى، كانوا يتنظرون لحظة التغيير تلك بكل شوق، لذلك، ظهرت زيارة الشرع لأمريكا كأنها أكثر من خطوة سياسية، بدت كإشارة إلى أن سوريا تختبر جلدًا جديدًا، وأنها مستعدة، أو مضطرة (لا فرق هنا) لتغيير هويتها الرسمية.

في هذا السياق، لا أستطيع مقاومة استعادة مفهوم “سيناريو اللعنة الفرعونية” الذي تحدث عنه محمد جمال باروت في كتابه “العقد الأخير في تاريخ سوريا”، باروت وصف نمطًا تاريخيًا مدهشًا: ما يحدث في مصر، يحدث بعد سنوات في سوريا، مع اختلاف الدرجة والشكل، ليس نقلًا حرفيًا، بل تكرار بنيوي، مصر تغير خطابها، ثم تلحقها سوريا تحت ضغط التاريخ والجغرافيا ووزن الإقليم، مصر تخرج من لغة الثورة إلى لغة السلام، وسوريا بعد سنوات طويلة من الإنهاك، تبدو اليوم في طريقها لعبور مشابه: من خطاب “الصمود” و“العداء” إلى خطاب أكثر براغماتية وواقعية وانفتاحًا.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا:

هل دخلت سوريا بالفعل مرحلة ساداتية جديدة؟

بداية الجواب تأتي من رصد إشارات صغيرة، لكنها دالّة وبشدة، في الاقتصاد مثلًا، نرى علامات مبكرة على رأسمالية طبقية، شبيهة بفترة الانفتاح المصري، فالكهرباء التي كانت حاجة يومية أساسية أصبحت اليوم متوفرة لمن يستطيع الدفع، أي أنها تتحول تدريجيًا إلى خدمة “للأغنياء”، وليست حقًا عامًا لسكان البلد، الرأسمالية السورية اليوم لا تُقدَم بوصفها مشروعًا اقتصاديًا واضحًا، بل بوصفها ضرورة يومية تفرضها الوقائع، تمامًا كما حصل في مصر بالسبعينيات.

وفي جانب الحريات، تبدو المؤشرات أكثر وضوحًا. إغلاق بعض المجلات الثقافية، منع مقالات من النشر، وضبط ولو محدود جدًا لحدود الكلام العام، ليست عودة إلى القمع الصريح كما كانت الحال قبل سنوات، لكنها أيضًا ليست حرية مفتوحة، إنها “حرية مضبوطة”، يُسمح بها ما دامت لا تقترب من الخطوط الجديدة، ويدار المجال العام باعتباره مساحة يجب التحكم بها لا تركها تتنفس كما تشاء، وهذا بالضبط يمنح المرحلة طابعها الساداتي: انفتاح نسبي، لكن مراقَب وحذر.

لهذا يصبح السؤال مشروعًا: هل تعيش سوريا اليوم لحظة انتقال كبرى، تترك فيها لغة الماضي، وتدخل زمنًا جديدًا، كما فعلت مصر قبل نحو نصف قرن؟

ربما الجواب ليس نعم أو لا، بل إن الهوية السورية تتحرك الآن، تفلت من يد الماضي، وتبحث عن وجه جديد، والإنهاك، كما علّمنا التاريخ، هو الوقود الأول لكل تحول جذري.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.