لمى قنوت
اختارت السلطة الانتقالية في سوريا الاقتصاد كبوابة للاستقرار، والسعي لرفع العقوبات وجلب استثمارات من أجل تحقيق عوائد مالية سريعة لإنعاشه من خلال مشاريع عقارية وسياحية وبنية تحتية وتأجير مرافق حيوية، لكن خطواتها أعادت إنتاج نظام الريع، واتسمت بالغموض والمركزية الشديدة وغياب الشفافية والرقابة، وخلت من رؤية اقتصادية شاملة، وإطار ناظم للاستثمار، وخطة لإعادة الإعمار، وغابت عنها التشاركية والحوار مع المجتمعات المحلية، وبالتالي فصلت السلطة الانتقالية السياسي عن الاقتصادي، بمعنى أنها غيبت عمدًا أهمية بناء عقد اجتماعي، وهي سمة متلازمة للأنظمة التسلطية، والتي تستعيض عن الانفتاح السياسي بانفتاح اقتصادي، فتغلق الأول، وتهندسه على مقاسها ورغبتها، وتُغرِق الثاني بسياسات نيوليبرالية تخدم شبكات زبائنية.
في الأنظمة الريعية أو في سياق سلطات ما بعد النزاع، تؤدي عقود الاستثمار المختلفة إلى زبائنية سياسية من خلال السيطرة الاقتصادية على موارد عامة، كعقود الامتياز مثلًا (Concessions)، لتشغيل أو استغلال مورد عام أو بنى تحتية لفترة محدودة أو طويلة مقابل رسوم أو حصة من الأرباح، كالعقود السابقة التي منحها نظام الأسد للروس والإيرانيين مقابل دعم سياسي وعسكري، وحاليًا، أعادت السلطة حكم الغلبة وهندسة الفساد، رغم أنها ترفع شعار مكافحته، عبر اقتصاد موازٍ قائم على الولاء وتوزيع “المغانم”، وحضرت الزبائنية في مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية مرورًا بجميع المؤسسات.
وبالتركيز على عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، فقد افتقرت إلى الشفافية والمنافسة، وغاب عن العقود المبرمة اتباع الخطوات القانونية الرئيسة أصولًا قبل إبرامها، وقد أدى غياب المعايير إلى التوقيع مع شركات تبين لاحقًا أن إحداها كانت وهمية، وعُرفت بمشروع “أبراج الفراشات”، وأخرى لا تملك الخبرة والكفاءة والملاءة المالية لتنفيذ الاتفاق، كالعقد الموقع مع شركة إيطالية غير معروفة لتنفيذ مشروع أبراج دمشق.
وفي واقع الحال، إن تجاهل المشاورات مع المجتمعات المحلية، وتجاهل مصالحها وأولوياتها، جعل اصطدامها مع السلطة أمرًا حتميًا، كما حصل مع ظهور الحملة الإعلامية لمشروع تطوير عقاري يدعى “بوليفارد حمص” في مطلع حزيران الماضي، فنظم الأهالي وقفة احتجاج ضده في حي القرابيص، وحملوا لافتات كتب عليها: “لا للبوليفارد، لا للتهجير”، وقارنوا المشروع بمشروع “حلم حمص” الذي وُضع أيام النظام السابق، واعترض عليه الأهالي ونظموا مظاهرات احتجاجية ضده.
إن تركيز السلطة الانتقالية على الاستثمارات ذات العوائد المالية السريعة دون التخطيط لإعادة الإعمار وبناء مؤسسات رقابية، والتأسيس لآليات “جبر ضرر تحولي لتحقيق عدالة انتقالية أكثر إنصافًا” بتشاركية نشطة وفعالة مع المجتمع المدني، وبضمنه مجتمعات الضحايا واللاجئين والنازحين، نساء ورجالًا، وتشجيع الاستثمار وفق رؤية منهجية قائمة على الاحتياجات، قد يؤدي إلى إبرام صفقات تنزع الملكية أو بتعويضات مجحفة وشكلية، تهمش أصحاب الحقوق الفعليين، وتحول السكان إلى طبقة مستهلكة بدلًا من مالكي وسائل إنتاج، أو تقوض حقهم في السكن، وتؤدي إلى زوال سريع لتراث المدن ونسيجها الاجتماعي.
يتبنى مؤيدو البحث عن استثمارات أجنبية ذات عوائد مالية سريعة، قبل التأسيس لعقد اجتماعي وخطة لإعادة الإعمار، عدة حجج منها: أنها وسيلة لتحريك عجلة الاقتصاد، وتخفيف للبطالة، وامتصاص للإحباط الاجتماعي، وللرد على تلك الحجج، فإن تجربة جورجيا في عام 2003، على سبيل المثال، رغم اختلاف السياقات في التجارب الدولية التي اعتمدت على الاستثمارات السريعة لتدوير عجلة اقتصاد ينهل من السياسات النيوليبرالية، أدت إلى انتعاش اقتصادي قبل الإصلاح السياسي، حيث تم تسريع تحرير الاقتصاد وتقليص القطاع العام ومحاربة الفساد الصغير فقط، لكنه بهذا النموذج انتقلت الأصول العامة للدولة إلى فئات قريبة من السلطة وشبكات للمتنفذين، وتمركزت السلطة بين أيديهم، وتم استبعاد المجتمعات الريفية عن النمو، بالإضافة إلى أن الاستثمارات تركزت في الخدمات والقطاعات المربحة، وأُهمل قطاعا الصناعة والزراعة، وتكرست الفجوات الطبقية، وانخفض الإنفاق الاجتماعي واتسع نطاق الاقتصاد غير المنظم بسبب عدم إيجاد آليات مؤسساتية بديلة، كما أدت السياسات النيوليبرالية إلى تفكيك أو إضعاف النقابات العمالية، التي اعتبرت “عقبة” في وجه الاستثمار، وبالتالي تقلصت الضمانات العمالية، وسنت قوانين مقيدة للإضراب، ووصمت التحركات النقابية بحجة أنها عودة لـ”المرحلة السوفييتية”.
إن تقديم الانفتاح الاقتصادي على العقد الاجتماعي وشكلية الحوار الوطني والانغلاق السياسي مع البنية الاستبدادية للدولة التي كرسها نظام الأسدين، أضيف إليها البنية الأيديولوجية للسلطة، كبنية فصائلية سلفية، تعتبر “أدلبة سوريا” صالحة للنهوض ببلد مدمر وممزق ومؤسسات هشة، أنتج بنية تسلطية مركزية زبائنية، حصرت الصلاحيات في تركيبة عائلية تمركزت بيد الرئيس الانتقالي أحمد الشرع ذي الصلاحيات الواسعة وأخويه، حيث يهيمن حازم الشرع على “هيئة الاستثمار السورية” ويعيد هندسة الاقتصاد ويعقد صفقات بشكل سري مع مجرمين ارتكبوا أو دعموا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم اقتصادية، للحصول على جزء من الأموال التي نهبوها، مقابل استمرار أعمالهم وعدم ملاحقتهم، ويتولى ماهر الشرع الأمين العام لرئاسة الجمهورية.
أما الرجل الثاني في السلطة الانتقالية، أسعد الشيباني، وزير الخارجية، فقد هيمن على الشؤون السياسية الداخلية وتنظيمها عبر “الأمانة العامة للشؤون السياسية” التي استُتبِعت هيكليًا لوزارة الخارجية، وتسلطت على أصول حزب “البعث” وأحزاب الجبهة الوطنية المنحلة خارج الموازنة العامة، وحرم دستوريًا مجلس الشعب المُعيّن من مساءلة السلطة التنفيذية، وحصر القرار النقدي والرقابة المالية بتعيين محمد عمر قديد رئيسًا للجهاز المركزي للرقابة المالية، وهو خباز سابق، ومعروف سابقًا باسم “أبو عبد الرحمن الزربة”، الذراع الاقتصادية لـ”هيئة تحرير الشام” في إدلب، وأسس الإدارة العامة لمؤسسة النقد التابعة لـ”الهيئة”، والمسؤولة عن تجارة العملات، وكان له دور أيضًا في شركة “وتد للبترول” التي احتكرت تجارة المحروقات في إدلب، ثم أنشأ مؤسسة “الوسيط” لتحويل الأموال وتصريف العملات، ويطلق عليه حاليًا بـ”حاكم الظل” في المصرف المركزي. ولا يقتصر الأمر على تعيينات تعلي الولاء على الكفاءة، بل امتدت إلى تقويض سيادة القانون وشكلية الحوكمة وعدم احترام فصل السلطات، كالمرسوم رقم “113” القاضي بإحداث مؤسسة ذات طابع اقتصادي أطلق عليها “الصندوق السيادي”، برئاسة رئيس الجمهورية الانتقالي، وهو الضامن لحوكمة الصندوق وشفافيته.
إن الفساد بأبعاده المتنوعة، كتضارب المصالح وانعدام الشفافية والحوكمة وتقويض سيادة القانون وعدم احترام فصل السلطات وضمان استقلال القضاء، لا يشجع على إعادة الإعمار، حتى مع رفع العقوبات، كما أن جذب الاستثمارات والمشاريع دون عقد اجتماعي ورؤية سياسية اقتصادية اجتماعية تشاركية شفافة، وعادلة معاصرة، وإصلاح هيكلي، ومؤسسات رقابية، يجعل أجهزة الدولة أداة لتفصيل الصفقات، وتوزيع المناصب والمكاسب “كغنائم” لحلفاء السلطة والقوى الإقليمية والدولية التي ما زالت تتحكم بالملف السوري، ما يُعمِّق الاستحواذ الفئوي للموارد بدلًا من توزيعها العادل، ويكرس سيطرة الشبكات الزبائنية، ويقوي تحالفات “النخبة” المهيمنة على حساب العدالة الاجتماعية والمكانية والبيئية، وربما، يُخفض مستويات العنف المباشر أو غير المباشر بين الجماعات المتنازعة أو المتنافسة وقوى الأمر الواقع، لكنه يعمق أشكالًا بنيوية منه كإفقار المهمشين والعنف غير المباشر المؤسسي.
مرتبط
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
المصدر: عنب بلدي
