اخبار تركيا

تناول مقال للكاتب والباحث العربي مهناالحبيل، رحلة شخصية الكاتب في تركيا، مركّزًا على إسطنبول كمركز حضاري غني بالتاريخ الاجتماعي والثقافي والتنوع الديني، مع تسليط الضوء على التعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود عبر العصور العثمانية وما قبلها.

يناقش الكاتب جوانب الحضارة الإسلامية في المدن التركية، مقارنةً بتاريخ أوروبا مثل الأندلس، ويرصد آثار الماضي على الحاضر، سواء من حيث العمارة، المساجد، الكنائس، أو التقاليد الاجتماعية، مع الإشارة إلى التحديات الاقتصادية الحالية وتأثيرها على الحياة اليومية.

وفيما يلي نص المقال الذي نشرته جريدة الوطن القطرية:

تأخرت رحلتي السياحية بين المدن التركية عشرة أعوام، حيث بدأت علاقتي مع تركيا في عام 2013، كموطن شرقي يحمل مخزوناً هائلاً من علاقات الأمم والشعوب والجماعات البشرية، وموقع اشتباك واسع ومعقد، سواءً كونها مركزاً للشرق المسلم لقرون عديدة، أو في داخل الإمبراطورية العثمانية ذاتها، التي حوت طبائع واتجاهات هذه الشعوب الدينية والسياسية والثقافية، وهي سردية ضخمة تحتاج إلى تفكيك وشرح، وتسليط الضوء عليها، عبر المعيار الحضاري المنصف، لا الانحياز الغربي ولا الاصطفاف العاطفي، الذي لا يُلغي أننا والأخوة الأتراك، كما هي بقية أمم الشرق المسلم والشرق هنا بمعناه الفكري، ننتمي إلى أمة الرسالة الواحدة، وأصلُ حضارتها عهدة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.

​هذا المجهر الذي أقصدُه في البحث عن التاريخ الحضاري، من حيث احتواء الأمم والشعوب، وحضور قيم الروح والأخلاق في الإحسان إلى الخلق والأرض، بما فيها الزرع والضرع، تتجاوز الأخطاء والخطايا السياسية، وإن كانت لا تلغيها في معيار النقد الحضاري العام، لكنها تنظر إلى أثر رسوخ هذه المفاهيم، عبر العهود الإسلامية في المجتمعات، وبقائها في روح البيئة، وهي تحتاج إلى التركيز في النظر والبعد الأشمل، في استيعاب التاريخ الاجتماعي، بعيداً عن صراعات الزمن الأخير السياسية، إلا ما له أثر في هذا الاستنتاج.

​ولعل زاويتنا في هذا المقال، تطوف في رواق أدب الرحلات، ولكن تتوقف في هذه المعاني التي اشرتُ لها في المقدمة، وشخصياً أنا من عشاق إسطنبول، ومن المنحازين لها بمبررات موضوعية في نظري، ولكني لم اغادرها إلى المدن التركية الأخرى، حين كنتُ مقيماً فيها، قبل انتقالي إلى كندا موطن المهجر الأخير منذ 2017.

والأستانة لوحة جمال تعيش في وسطها، أنظرتَ من داخل الإطار أم رفعتَ بصرك إلى أرضها من سماء الله، ولكننا نخشى على إسطنبول اليوم وكل تركيا، من ظاهرة الغلاء الشرسة، التي لا تتوقف، وندعو الله أن يبارك على اقتصاد تركيا بكل ما يرضيه.

​دوماً أسأل رفاقي في الجولات السياحية المتكررة، عند زيارتي لتركيا ما هو سر إسطنبول؟

​هنا التقاء القارتين على ضفاف البسفور واجهة مذهلة، لا تتكرر في البلدان المنافسة في أوروبا، ولكن في أوروبا التي زرتُ العديد من دولها، كما هو أمريكا الشمالية هناك طبيعة ساحرة في أرض الله، كما أن هناك مصادر أخرى للسياحة لمن يهمه الجوانب الثقافية وحديث المتاحف، أو آثار الأمم كل ومرجعيته التاريخية، أو أرشيفه التراثي والاجتماعي، وفي إسطنبول هناك ما يجمع المسيحيين والمسلمين، لكن شواهد التاريخ المسيحي والإغريقي القديم، حاضرة بقوة فيها وفي مدن تركيا الأخرى، وكذالك الكنائس القديمة أو أسوارها، وقد يرى البعض أن تحويل مسجد اياصوفيا تعدياً حضاريا، وهذه جدلية يطول شرحها.

​لكن الفارق هنا واضح في تاريخ الاستئصال الدموي بين أوروبا وبين العهد العثماني، ليس في البشر وحسب، بل حتى في الآثار، فواقع الأندلس اليوم، هو أنهُ متحف محاصر معبأ بمرويات تاريخية مضللة، ليس في رؤيتنا فقط، ولكن في رؤية الباحثين الإسبان المنصفين، فإخفاء قصة حضارة كبرى، تحت ستار أن منشئيها هم غُزاةٌ منبتّون، عن التاريخ الاجتماعي ورحلة الفتح التي آمن بها المسلمون، وأن المُلك الإفرنجي المسيحي القديم، استرد هذه الأرض وانتهى الأمر! فيه تزوير ضخم، مع بقاء الأندلس مصدراً ضخماً للسياحة الإسبانية، يُدخل عليها مليارات الدولارات كل بضع سنين،.

​أين تلك الأمة التي بَعثت هذا الحضارة في قرطبة وغرناطة وفي بلد الوليد، وفي مدريد ذاتها؟

​ماهي أفكارها كيف عاشت مجتمعاتها، كيف حضر اليهود والمسيحيون في كل أركانها، وكيف آلت الأرض بعدهم إلى مقبرة حمراء، لا يجف فيها الدمع ولا الدم في ذكرى محاكم التفتيش، وضحايا الحرّاقين كما يسميهم الرحالة الأندلسيون، وهنا لسنا نفرد دفاتر التاريخ في الأندلس، وهو سجل ضخم، لكننا نشير الى تاريخ المذابح التي تعرض لها قبل المسلمين، المسيحيين ذاتهم في طوائف أخرى، واليهود الذين انقذتهم الحضارة الإسلامية، هنا نفهم مشهد التاريخ التراثي والاجتماعي التركي.

​فلا يزال المسيحيون جزءًا من تركيبة الشعب التركي، وهناك كنائس قائمة، وكان لهم ممثلين منذ زمن مجلس المبعوثين الأممي، بغض النظر عن تاريخ العدالة السياسية في زمن السلاطين، وكيف ننظر له في المرجعية الإسلامية الدستورية.

​إن سر إسطنبول وأنت تمر على شواهد التعدد فيها، لا يمكن أن يُغفِل المعنى العميق للمؤمنين بالله في روح المساجد، وهذا هو سر جمال الشرق في إسطنبول، طبيعة ساحرة، ودفقة روح متجددة تجدها في الاذان وفي عمران المساجد، التي تُذكّرك بأن من خلق الجمال على الأرض، هو من فطر الروح في الإنسان، فيُشرق الحُسنُ في قلبك قل عينيك.

شاركها.