سلطان بن ناصر القاسمي
عندما أتحدث عن أن يعيش الإنسان بسلام مع من يحيط به في المجتمع، فأنا لا أتحدث عن حالة عابرة أو موقف يتكرر بين حين وآخر؛ بل عن منهج حياة يقوم على الابتعاد عن كل ما يجرّ الروح إلى التوتر والتصادم مع الآخرين؛ سواء كان ذلك التصادم مباشرًا بالخصام والجدال، أو غير مباشر بالاستنزاف النفسي والغيرة والمقارنة وكثرة الكلام. فكلا النوعين يورثان الإنسان تعبًا لا يظهر سريعًا؛ بل يتسلل ببطء إلى صحته وعلاقاته وراحة قلبه؛ حتى يجد نفسه مريضًا بلا سبب واضح، مشتتًا بلا مبرر، منهك الروح قبل أن يمرض الجسد.
من هنا يظهر معنى السلام الحقيقي، السلام الذي يبدأ من اعتزال ما يؤذيك. والاعتزال هنا لا يعني الانعزال عن المجتمع، ولا الانطواء بعيدًا عن الناس؛ بل يعني أن تختار بقلب حكيم ومعايير واضحة: ما يليق بروحك، وما يتفق مع قيمك ومبادئك، وما يتناغم مع شخصيتك دون أن يشوّه فطرتك أو يزعزع صفاءك. أن تنتقي أصحابك كما تنتقي غذاءك، فالمرافق الصادق الذي يعينك على الخير ويحافظ على صلاته وعبادته، هو مكسب روحي لا يُقدّر بثمن، بينما صحبة تستهلك وقتك وقلبك، وتدفعك إلى المشاكل وتبعدك عن الحق، هي خسارة لا يعوضها أي مكسب دنيوي. لذلك، أحسنوا الاختيار، وتيقنوا من أفعال من تصاحبون، ولا تتركوا قلوبكم تُساق بلا وعي خلف الضجيج والآراء المتقلبة.
ولعلنا نرى في حياتنا من يملك القدرة على الرد والانفعال، لكنه يختار الصمت. في إحدى المؤسسات، كان موظف هادئ الطباع يعمل بين أشخاص لا يتركون فرصة إلا وانتقدوه فيها. كانوا يراقبون تصرفاته، يحاكمون كلماته، يحمّلونه أخطاء لم يرتكبها. ومع ذلك كان ثابتًا، هادئًا، لا يرد إلا بابتسامة. وحين سأله أحدهم: لماذا تسكت رغم أنك قادر على الدفاع عن نفسك؟ قال: “لا أحب أن أمنح ضجيج الآخرين غرفة في قلبي، فالقلب صغير ولا يسع إلا ما يُريحني”.
كان يختار السلام بوعي، وكأنه يمارس عبادة خفية لا يشعر بها إلا من ذاق طمأنينتها. لقد فهم ذلك الحكيم أن الهدوء ليس ضعفًا؛ بل قوة تُمارس بصمت وحكمة لا ترى إلا بالقلوب.
إنَّ ما يؤذيك فكريًا أشد خطرًا مما يؤذي جسدك. فالجسد حين يتعب، يعالجه الطبيب، وتعيده الأدوية إلى عافيته. أما الفكر حين تلوثه السلبية، ويستقبِل الأخبار المظلمة والأحاديث المُحبِطة والمقارنات المؤذية، فإن الأدوية لا تنقذه، ولا المشافي تصلحه. لذلك تجنّب مصادر التوتر. لا تتابع كل حدث ولا تغص في تفاصيل كل قضية. ليس كل ما يحدث في العالم يستحق أن يسكن عقلك أو يُعكّر صفاء روحك.
خفّف من العلاقات التي ترهقك، ومن الالتزامات التي لا تحتاجها. كلما كثرت الأشياء التي لا ضرورة لها في حياتك، تضاءل السلام الداخلي فيك. عش ببساطة، وارضَ بالقليل، وتمنَّ الخير للناس، وذكّر نفسك أن الطمأنينة رزق. يقول الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب) (الرعد: 28).
لا تنتظر أن تأتيك الظروف بالطمأنينة؛ بل اصنعها أنت بإرادتك. اجعل بداية يومك مختلفة عن الأمس، ابدأ بصلاة الفجر في جماعة، صافح قلبك قبل أن تصافح الناس، سامح من أزعجك، واغلق أبوابك أمام كل ما لا يستحق طاقتك. لا تجعل السلام حالة تُنتظر؛ بل عادة تُمارس كل يوم. قال تعالى:(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ) (الفتح: 4).
طهّر قلبك من الحسد والضغينة، لأن من امتلأ قلبه رِضا عاش في سلام مع نفسه ومع الآخرين. واعلم أن الراحة النفسية ليست رفاهية؛ بل ضرورة تحمي صحتك، تعزز إنتاجيتك، وتقوي علاقاتك. أما غيابها فيفتح أبواب القلق والتوتر، وقد يقود لمرض جسدي مثل السكري وأمراض القلب. لذلك، فإن السلام الداخلي أُس حياة سعيدة، لا ترفًا يختار بعض الناس أن يعيشوه.
