تشهد أميركا اللاتينية تحوّلات سياسية جذرية في ظل صعود قوى اليمين على خلفية موجات استياء شعبي من القادة والنخب، في الوقت الذي تسعى فيه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لتجديد الاهتمام بالفناء الخلفي للولايات المتحدة بعد عقود من الإهمال، وفق صحيفة “وول ستريت جورنال”.
وقالت الصحيفة الأميركية في تقرير، إن الناخبين الغاضبين من تعامل حكوماتهم مع ملفات الجريمة والهجرة والاقتصاد، يدعمون السياسيين المحافظين الذين يريدون علاقات أوثق مع واشنطن، ما يعني أن القارة تتجه إلى اليمين، وتصبح أكثر “ترمبية”.
وعلى صعيد الولايات المتحدة، أصبحت “الترمبية” أشبه بحركة شعبوية يلخصها البعض بمزيجٍ من القومية، والشعبوية، والحمائية الاقتصادية.
وتمثل “الترمبية” ملاذاً لمن يعانون من الضغوط الاقتصادية، والتغيرات الثقافية والتكنولوجية السريعة، ويعتقد البعض أنَّها استثمرت في شعور قطاع من المجتمع الأميركي بخيبة الأمل من النظام السياسي القائم، خصوصاً في المناطق الصناعية التي تعطلت مصانعها جراء عولمة الاقتصاد ونقل التصنيع إلى الخارج.
وذكرت “وول ستريت جورنال” أن تشيلي تستعد لانتخاب رئيس محافظ اقترح حفر خنادق لإبعاد المهاجرين. وفي بوليفيا، أبعد الناخبون مؤخراً الاشتراكيين الذين حكموا البلاد لمدة 20 عاماً تقريباً. وفي الأرجنتين، حتى أفقر الناخبين أيدوا جهود الرئيس خافيير ميلي لتقليص حجم القطاع الحكومي.
وتشهد أميركيا الجنوبية التي حكمتها قبل عدة سنوات مجموعة من اليساريين، وكثير منهم معارضون للولايات المتحدة، تحولاً في البندول السياسي إلى اليمين، ولا يمكن أن يأتي ذلك في وقت أفضل بالنسبة للرئيس ترمب، بحسب الصحيفة.
تجدد الاهتمام بالفناء الخلفي
وأشارت إلى أنه بعد سنوات من تجاهل فنائها الخلفي، جددت الولايات المتحدة اهتمامها بأميركا الجنوبية في عهد الرئيس ترمب، إذ استهدفت إدارته قوارب تقول إنها تُهرّب المخدرات في منطقة البحر الكاريبي، ودعمت حكومة الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي بمليارات الدولارات، ومضت قدماً في صفقات لاستعادة النفوذ من الصين.
ولفتت إلى أن الرهان يتعلق بمسألة احتياطيات المنطقة الهائلة من المعادن والنفط، وهي “جائزة أصبحت الآن في متناول واشنطن” مع اكتساح قادة مؤيدين للسوق السلطة، وترمب لديه أيضاً فرصة لتعزيز سيطرة الولايات المتحدة على نصف الكرة الغربي، الذي تعتبره إدارته “منطقة نفوذ حصرية” للولايات المتحدة.
ونقلت “وول ستريت جورنال” عن إيفان إليس، وهو خبير في شؤون أميركا اللاتينية بكلية الحرب التابعة للجيش الأميركي: “الولايات المتحدة لديها فرصة استراتيجية هائلة”.
ووفقاً للصحيفة، فقد أعطى الغضب من ارتفاع معدلات الجريمة والهجرة، التي تأتي في معظمها من فنزويلا الفقيرة، زخماً لليمين السياسي، كما يعزز سوء الإدارة الاقتصادية من قبل حكومات يسارية السياسيين المؤيدين للسوق.
وقال مايكل شيفتر، الباحث في شؤون أميركا اللاتينية بـ”هيئة الحوار بين البلدان الأميركية”، وهي مؤسسة أبحاث مقرها واشنطن: “هناك إحباط حقيقي ورغبة في اتخاذ تدابير أكثر صرامة في جميع أنحاء المنطقة إما لمعالجة الجريمة أو الأزمات الاقتصادية”، مضيفاً: “وهذا يصب في صالح مرشحي اليمين”.
صعود مرشحي اليمين
في تشيلي، دعم نحو 70% من الناخبين مرشحي اليمين في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في البلاد. ومن المتوقع على نطاق واسع أن يتغلب خوسيه أنطونيو كاست، وهو مشرع سابق محافظ متشدد، على جانيت جارا من الحزب الشيوعي في جولة الإعادة في 14 ديسمبر المقبل. وكان كاست وصف انتخاب الرئيس ترمب عام 2024 بأنه “انتصار جديد للحرية والمنطق السليم”.
وفي تعليق على نتائج الانتخابات، كتب محللون في شركة “أورورا ماكرو ستراتيجيز”، وهي شركة استشارية أميركية، أن تشيلي تعد “أوضح (مثال) على رفض اليسار منذ ما يقرب من قرن”.
وساهم تزايد نفوذ العصابات الإجرامية في جميع أنحاء المنطقة في دفع الناخبين إلى أحضان السياسيين اليمينيين المتحالفين مع ترمب، بحسب الصحيفة.
وفي السلفادور، دفع عنف العصابات المتصاعد البلاد بشكل حاد إلى اليمين، ما زاد من الدعم للسياسات الأمنية الصارمة التي ينتهجها الرئيس نجيب بوكيلة، والتي يعتبرها العديد من المحافظين في أميركا اللاتينية نموذجاً يحتذى به.
وفي بيرو، التي تعاني من تزايد عمليات الابتزاز، من المرجح أن يفوز أحد المرشحين اليمينيين في الانتخابات الرئاسية العام المقبل.
أما في كولومبيا، يسعى المحافظون إلى استغلال غضب الناخبين؛ بسبب تزايد الاتجار بالكوكايين، واحتمال فوز مرشح يساري متشدد يهدف إلى استبدال رئيس البلاد الذي لا يحظى بشعبية كبيرة جوستافو بيترو.
وفي البرازيل، لا يزال الرئيس اليساري لويس إيناسيو لولا دا سيلفا المرشح الأوفر حظاً للفوز في انتخابات العام المقبل، لكنه شهد مؤخراً تراجعاً في شعبيته بعد وصفه مهربي المخدرات بأنهم “ضحايا” تجارة الكوكايين.
حوافز أميركية “ملموسة”
وأوضحت الصحيفة أن ترمب عرض حوافز ملموسة في المنطقة، حيث كان يمازح الدبلوماسيون منذ فترة طويلة بأن واشنطن تأتي للتحدث، بينما تأتي بكين للبناء.
ودعمت إدارة ترمب التغييرات الجذرية التي أجراها الرئيس الأرجنتيني في السوق الحرة التي يقودها بحزمة إنقاذ بقيمة 20 مليار دولار، ومددت تمويل شراء الوقود لبوليفيا، وأعلنت مؤخراً عن اتفاقية تجارية مع الإكوادور والسلفادور والأرجنتين.
وتتربع كل من الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي على قمة نصف موارد الليثيوم في العالم. وتنتج تشيلي ما يقرب من 25% من النحاس في العالم، بينما تمتلك البرازيل ثاني أكبر احتياطي من المعادن الأرضية النادرة في العالم بعد الصين. هذه المعادن لا غنى عنها في كل شيء من السيارات الكهربائية إلى تقنيات الدفاع.
وفي بوليفيا، عزز انتخاب الرئيس رودريجو باز مؤخراً، وهو وسطي مؤيد للأعمال التجارية، بعد سنوات من الحكم الاشتراكي، الآمال في أن تخفف الحكومة من سيطرة الدولة على صناعة الليثيوم.
وأشاد نائب وزير الخارجية الأميركي كريستوفر لانداو، بانتخاب باز باعتباره “لحظة ولادة جديدة عظيمة” للعلاقات البوليفية الأميركية، بعد حضوره حفل تنصيبه الأخير.
أما في أقصى الشمال، فإن جيانا وسورينام، اللتين برزتا باعتبارهما من أكثر حدود النفط والغاز الواعدة في المنطقة، مقربتان أيضاً من إدارة ترمب. وتعتمد جيانا بشكل متزايد على الدعم العسكري الأميركي في نزاعها الحدودي مع فنزويلا.
ومع ذلك، في منطقة لا تزال فيها المشاعر المعادية للولايات المتحدة باقية، حتى بين الناخبين الأكثر تحفظاً، يتعين على ترمب أن يخطو بحذر، وفق محللين.
وذكرت الصحيفة أن محاولات واشنطن للضغط على البرازيل بشأن المحاكمة الجنائية للرئيس اليميني السابق جايير بولسونارو جاءت بنتائج عكسية إلى حد كبير، ما أدى إلى حشد المزيد من الدعم للرئيس دا سيلفا حيث رأى الناخبون أن هذه الخطوة تمثل “اعتداءً على سيادة البلاد”.
وفي استفتاء أجري مؤخراً في الإكوادور، رفض الناخبون بأغلبية ساحقة اقتراح الرئيس اليميني دانيال نوبوا، الذي كان سيسمح للولايات المتحدة بفتح قاعدة عسكرية في البلاد.
وفي أميركا الوسطى، أثارت تهديدات ترمب بالاستيلاء على قناة بنما احتجاجاً وطنياً، وانتقادات لواشنطن من قبل الرئيس المحافظ خوسيه راؤول مولينو.
من جهة أخرى، لن يكون الحد من نفوذ بكين في المنطقة أمراً سهلاً؛ فالصين الآن هي الشريك التجاري الأول لأميركا الجنوبية، ومصدر أساسي للاستثمارات والتمويل.
وبحسب الصحيفة، يتمثل أحد الخيارات في الحد من بعض المشاركة مع بكين في المشاريع التي لطالما انتقدتها واشنطن، مثل تلك التي تنطوي على الأمن أو أبحاث الفضاء.
