لا يزال قرار البنك المركزي الإيراني بحلّ “بنك آينده” – أحد أكبر البنوك الخاصة في البلاد – ودمجه في بنك “ملي” الحكومي، لا يزال يثير صدمة في الأوساط الاقتصادية والشارع على حدّ سواء، في خطوة غير مسبوقة بحجمها وتوقيتها، تعكس حجم التراكمات في منظومة مصرفية تعاني من ديون متعثرة، وتسهيلات مرتبطة بأصحاب النفوذ، وتضخم يلامس مستويات قياسية.
السلطات أكدت أن ودائع نحو سبعة ملايين عميل ستُنقل كما هي إلى “ملي”، وأن فروع “آينده” ستواصل تقديم الخدمات نفسها تحت الاسم الجديد، في محاولة لطمأنة الجمهور ومنع حالة هلع وسحب جماعي للودائع، لكن حجم الخسائر التي تكشّفت لاحقاً، وطبيعة نموذج عمل البنك، أثارا تساؤلات أعمق حول مستقبل البنوك الخاصة في إيران.
من صعود سريع إلى سقوط مدوٍّ
تأسس “آينده” في العام 2012 عبر اندماج “بنك تات”، الذي أسسه رجل الأعمال علي أنصاري، مع مؤسسات ائتمانية أخرى. وخلال سنوات قليلة، جذب البنك ملايين المودعين عبر تقديم فوائد أعلى بنحو 4% من السقف الذي حدده “مجلس النقد والائتمان”، ما مكّنه من الاستحواذ على حصة تقدَّر بنحو 7.5% من الودائع على مستوى النظام المصرفي بحلول العام 2017.
لكن خلف هذا النمو السريع، تكوّنت فجوة كبيرة بين الودائع والأصول المنتجة، بفعل سياسة إقراض محفوفة بالمخاطر وانخراط مكثف في مشاريع عقارية ضخمة، وعلى رأسها “إيران مول” غرب طهران، الذي اتهم بالتحوّل لاحقاً إلى رمز لـ”المقامرة العقارية” التي شارك فيها البنك.
“إيران مول”.. الحلم الذي استنزف البنك
وتشير تحقيقات وتقارير اقتصادية إلى أن نحو 70% من محفظة قروض “آينده” ذهبت إلى شركة تطوير “إيران مول”، المملوكة بالكامل للبنك، في مخالفة صارخة للقيود القانونية على حجم التسهيلات التي يمكن أن يحصل عليها مقترض واحد.
عملياً، كان البنك يقرض نفسه، ويراهن على أن يتحوّل المجمّع التجاري الضخم إلى ماكينة أرباح بعد الاتفاق النووي وجذب الاستثمارات الأجنبية، لكن تشديد العقوبات بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق في 2018 وانكماش القوة الشرائية للإيرانيين جعلا المشروع عبئاً ثقيلاً بدل أن يكون محرّك نمو.
بيانات رسمية وتسريبات قضائية تحدثت عن أن أكثر من 90% من أموال البنك وُجّهت إلى جهات مرتبطة بمساهميه وإدارته، أو إلى مشاريع يملكها بشكل مباشر، مع تضخّم الخسائر المتراكمة إلى مئات التريليونات من الريالات الإيرانية، وبلوغ نسبة كفاية رأس المال مستويات سلبية بعشرات الأضعاف، مقارنة بالحد الأدنى الدولي البالغ 8%، ما يعني أن البنك كان عملياً في حالة إفلاس قانوني قبل سنوات من قرار الحل.
دور البنك المركزي.. إنقاذ متأخر أم إدارة متسامحة؟
منذ أواخر العقد الماضي، وضع البنك المركزي “آينده” تحت إشراف خاص، وتم تغيير مجالس إدارته، وسمح له في الوقت نفسه بالاستمرار في العمل عبر تسهيلات واسعة على شكل سحوبات مكثفة على حسابات لدى البنك المركزي (أوفر درافت) وطباعة نقود عملياً لتأمين السيولة، في خطوة يقول منتقدون إنها ساهمت في تغذية التضخم وتقويض الانضباط النقدي.
بحسب أرقام رسمية، كان “آينده” مسؤولاً منفرداً عن أكثر من 40% من إجمالي السحوبات على البنك المركزي، وعن حصة مماثلة تقريباً من اختلال رأس المال في النظام المصرفي، قبل أن يُعلن حاكم البنك المركزي محمد رضا فرزين في أكتوبر 2025 أنه “لن يكون هناك بنك آينده بعد اليوم”، معلناً حلّه ونقل عملياته إلى “ملي إيران”
طمأنة المودعين.. ومخاوف على القيمة الحقيقية للمدخرات
السلطات النقدية أكدت أن حسابات وودائع عملاء “آينده” ستُنقل كما هي إلى بنك “ملي”، وأن العقود المصرفية ستبقى سارية بالشروط نفسها، وأن البطاقات والخدمات الإلكترونية لن تتوقف، في محاولة لمنع حالة ذعر بين المودعين.
لكن خبراء اقتصاد يحذّرون من أن الضمان الأهم بالنسبة للمواطنين ليس مجرد القدرة على سحب أموالهم الاسمية، بل الحفاظ على قيمتها الحقيقية في ظل تضخم يفوق 40% سنوياً وفق تقديرات صندوق النقد الدولي ومصادر رسمية إيرانية، ما يعني أن أي تجميد طويل أو تآكل للفوائد سيترجم انخفاضاً ملموساً في القوة الشرائية للمدخرات.
حتى الآن، لا يزال الغموض يلفّ طريقة احتساب الفوائد المستقبلية على الودائع المنقولة، وهل ستُعامل كلها وفق هيكل أسعار الفائدة في “ملي” أم ستُحافظ على شروطها السابقة، وهي نقطة جوهرية بالنسبة لمودعين اختاروا “آينده” أصلاً؛ لأنه كان يدفع معدلات أعلى من البنوك الحكومية.
ضربة لثقة الجمهور في البنوك الخاصة
قرار حلّ بنك بهذا الحجم يُعدّ حدثاً نادراً في إيران، ومن المرجح أن يهزّ ثقة الجمهور في البنوك الخاصة التي ازدهرت في العقدين الماضيين في ظل تحرير نسبي للقطاع المالي، قبل أن تتراكم عليها اتهامات بالفساد وسوء الإدارة واستغلال الثغرات التنظيمية.
تقارير إعلامية إيرانية ودولية أشارت إلى أن عدداً من البنوك الأخرى في وضع هش، بينها “سرمايه” و”دي” و”إيران زمين”، إضافة إلى بنوك حكومية كانت قد استوعبت مؤسسات متعثرة سابقاً مثل “سبه”، ما يثير مخاوف من موجات إنقاذ جديدة أو اندماجات قسرية خلال الفترة المقبلة.
في المقابل، يحاول مسؤولون سياسيون تقديم عملية حل “آينده” باعتبارها “إنجازاً في الحوكمة” يثبت قدرة السلطات على مواجهة البنوك غير السليمة، غير أن محللين يرون في الخطوة اعترافاً متأخراً بعمق الأزمة، وتحمّل الدولة – في نهاية المطاف – كلفة سنوات من القرارات المثيرة للجدل ومنح قروض للأطراف المرتبطة سياسياً واقتصادياً.
ما أبعد من “آينده”.. أزمة هيكلية في اقتصاد عالي التضخم
تأتي قصة “آينده” في سياق أوسع لأزمة اقتصادية مزمنة؛ فإيران تعيش منذ سنوات مزيجاً من العقوبات الدولية، وتقلّبات أسعار النفط، وسياسات مالية ونقدية تفتقر – بحسب تقارير دولية – إلى الانضباط والشفافية، مع تضخم يفوق 40% وتراجع مستمر في القدرة الشرائية، وانخفاض حاد في قيمة الريال، الذي لامس في 2025 مستويات قياسية أمام الدولار.
تقديرات صندوق النقد الدولي تشير إلى نمو ضعيف يقترب من الصفر في 2025، مع استمرار التضخم المرتفع، فيما تحذّر تقارير أممية ودولية من أن الأعباء الأكبر تقع على الأسر ذات الدخل المحدود، التي شاهدت سلة إنفاقها الأساسي ترتفع بأكثر من 30% في فترات قصيرة بفعل زيادة أسعار الغذاء والطاقة
في هذا السياق، ارتفعت أصوات داخل إيران بدعوة المودعين الإيرانيين إلى توخّي الحذر في تنويع مدخراتهم وعدم الاعتماد حصراً على الودائع البنكية ذات الفائدة الاسمية المرتفعة، لكن في الوقت نفسه حذرت من أن الدعوة الصريحة إلى سحب الودائع قد تسهم في زعزعة ما تبقّى من استقرار في النظام المصرفي، ما قد يفاقم الأزمة بدل معالجتها.
إلى أين تتجه المنظومة المصرفية؟
انهيار “آينده” يطرح أسئلة صعبة على صانعي السياسات النقدية في طهران: هل يُفتح الباب أمام إصلاحات هيكلية حقيقية تعيد ضبط علاقة البنوك بالمشاريع المرتبطة بالسلطة، وتحد من القروض للأطراف الداخلية؟ أم أن الحل سيقتصر على نقل الخسائر إلى كاهل الدولة والمجتمع، مع تكرار التجربة ذاتها في بنوك أخرى مستقبلاً؟
في المدى القصير، يبدو أن همّ السلطات الأساسي هو منع انتقال عدوى الذعر إلى بقية البنوك، والحفاظ على الحد الأدنى من الثقة بالقطاع المالي في ظل ضغوط العقوبات وتجدد العقوبات الأممية وتصاعد التوترات الإقليمية.
أما في المدى المتوسط، فإن كيفية إدارة ملف “إيران مول” وبقية أصول “آينده” المتعثرة، ستكون اختباراً لمدى جدية الوعود بمعالجة أسباب الأزمة وتجلياتها.
