حسين الراوي
في الواقع لست متيقّنًا: هل يتحرّك الأوروبيون بدافعٍ من مصالحهم البحتة وخوفهم من أي عدوان روسي مستقبلي؟ أم أنهم فعلاً أجروا تعديلات جوهرية لصالح أوكرانيا على بنود خطة السلام التي قدّمها ترامب بين أوكرانيا وروسيا؟
ثم هل يمكن أن تؤدي هذه التعديلات الأوروبية إلى إيقاف الخطة أو تعقيدها أو حتى تعطيل مسار السلام برمّته
الأوروبيون أجروا تعديلات ملحوظة على خطة ترامب المكوّنة من 28 بندًا، لأن بعض بنودها تُعتبر متساهلة جدًا مع روسيا أو تشكل تنازلات خطيرة لأوكرانيا من وجهة نظر عواصم غربية.
وفيما يلي رصد لأبرز التغييرات التي اقترحها الأوروبيون وما دوافعهم بناءً على ما نشرته عدة مصادر تحليلية وإخبارية:
ما أضافه أو غيّره الأوروبيون في خطة ترامب:
1 زيادة سقف القوات الأوكرانية:
في خطة ترامب الأصلية، يُفترض تحديد عدد القوات الأوكرانية عند حد معين (وفق تقارير: حوالي 600,000 جندي في وقت السلم).
الأوروبيون (خصوصًا بريطانيا وفرنسا وألمانيا ـ ما يُعرف بمجموعة E3) اقترحوا رفع هذا الحد إلى 800,000 جندي في السلم.
سبب التغيير: يرون أن الحد الأصلي يضع أوكرانيا في ضعف أمني كبير ويُقيّد قدرتها الدفاعية بشكل قد يكون غير مقبول.
2 ضمانات أمنية على طراز “ناتوأر 5”:
الأوروبيون يقترحون أن تمنح أوكرانيا ضمانات أمنية من الولايات المتحدة تكون مشابهة لمبدأ المادة 5 في حلف الناتو (أي التزام جماعي بالدفاع).
هذا التعديل مهم جدًا، لأنه يوفر لـ كييف نوعًا من الردع ضد التهديد الروسي بعد نهاية أي اتفاق سلام، ويُعطي الأمان بطريقة متعددة الأطراف، وليس عبر تنازلات بسيطة فقط.
3 موقفهم من الأراضي الشرقية:
ترامب في خطته الأصلية، بحسب المصادر، يعترف ضمنيًا بـ “الواقع الفعلي الروسي” في دونيتسك ولوغانسك.
الأوروبيون يقترحون أن التفاوض على الأراضي لا يبدأ من مجرد تنازل مسبق لصالح روسيا، بل “يبدأ من خط التماس الجاري” (line of contact الحالي).
فهم بذلك يعارضون الموقف الذي قد يفرض تغييرًا من دون اعتبار كامل لسيادة أوكرانيا، ويسعون لحل تفاوضي أكثر “منصفًا” إلى حد ما.
4 الأصول الروسية المجمدة وإعادة الإعمار:
في خطة ترامب، هناك اقتراح بأن تُستثمر الأصول الروسية المجمدة (الموجودة في الدول الغربية) في إعادة إعمار أوكرانيا، مع أن الولايات المتحدة تأخذ جزء من الأرباح من هذا الاستثمار.
الأوروبيون رفضوا ما وصفوه بأنه استغلال لتلك الأصول لصالح أمريكي أولًا، واقترحوا بديلًا: الحفاظ على تجميد هذه الأصول حتى تقوم روسيا بتعويض أوكرانيا رسميًا عن الأضرار التي سببتها الحرب.
هذا التعديل يعكس قلقًا أوروبيًا من أن “إعادة الإعمار” لا تتحول إلى مكافأة لروسيا قبل أنها تتحمل مسؤوليتها الكاملة، ومن أنهم لا يريدون أن تكون الولايات المتحدة وحدها المستفيدة الأكبر من هذه الأصول.
5 مبدأ “لا تغيير حدود بالقوة”:
الأوروبيون يؤكدون في تعديلهم أن الحدود لا يجب أن تُغيَّر بالقوة، وأن السيادة الأوكرانية مهمة. وفق بعض مصادر الغضب الأوروبي، هذا أحد المبادئ الثلاثة التي طرحوها كشرط لاتفاق جدّي.
هذا يتعارض مع بعض النقاط المقلقة في مقترح ترامب التي قد تعطي تنازلات لأوكرانيا في المناطق التي تسيطر عليها روسيا فعليًا.
6 مشاركة أوكرانيا في التفاوض:
بعض الأصوات الأوروبية انتقدت فكرة التفاوض بدون إشراك أوكرانيا بالكامل أو دون احترام كامل لدورها، قائلين إن كييف يجب أن تكون “في طاولة التفاوض” وليس مجرد طرف عند التنفيذ.
هذه ملاحظة أساسية: الأوروبيون يريدون أن يكون أي سلام مؤسسًا ليس فقط على مقترحات أمريكيةروسية، بل بمشاركة فعلية لأوكرانيا واعتبار مصالحها السيادية.
لكن.. لماذا قام الأوروبيون بهذه التعديلات؟
حماية أمن أوكرانيا: الأوروبيون لا يريدون أن تُفرض تنازلات تجعل أوكرانيا ضعيفة جدًا، خصوصًا من الناحية العسكرية.
رفض الهيمنة الأمريكية: بعض النقاط تشير إلى أن الأوروبيين لا يرغبون في أن يتحكم الجانب الأمريكي وحده بإعادة الإعمار أو ضمانات السلام، وإنما يريدون دورًا لهم ومساهمة فعلية.
مصداقية أمام الرأي العام والسياسات الأوروبية: بعض الدول الأوروبية تواجه ضغوطًا داخلية أو سياسيًا لتظهر أنها لا تتخلى عن مواقف دعم أوكرانيا وسيادتها.
توازن القوى الجيوسياسي: بتعديل الخطة، يسعى الأوروبيون إلى إعادة توازن بين ما تريده روسيا وما تريده أوكرانيا، دون أن تكون التسوية لصالح موسكو بالكامل.
في المحصلة، تبدو التعديلات الأوروبية على خطة ترامب للسلام ليس مجرد “تحسينات تقنية”، بل تعبيرًا واضحًا عن رؤية جيوسياسية مختلفة في القارة العجوز تجاه مستقبل الأمن الأوروبيالأطلسي. فالأوروبيون – الذين يدفعون ثمن الحرب جغرافيًا واقتصاديًا وسياسيًا أكثر من غيرهم – لا يريدون سلامًا سريعًا يقوم على تنازلات أحادية تُضعف أوكرانيا وتُكرّس نفوذ روسيا، ولا يريدون أيضًا أن تتحول الخطة إلى مشروع أمريكيروسي يتجاوز مصالحهم. لذلك جاءت مقترحاتهم لتعزيز وضع كييف الدفاعي، ورفع سقف الضمانات الأمنية، وتشديد شروط التسوية الإقليمية والمالية، بما يضمن عدم إنتاج حرب جديدة بعد سنوات.
لكن في الوقت نفسه، قد تُدخل هذه التعديلات عنصرًا من التعقيد في المفاوضات، لأنها ترفع مطالب كييف وترفع كلفة التوافق بين واشنطن وموسكو. وهنا يكمن التناقض: فالأوروبيون يسعون إلى سلامٍ أكثر توازنًا وعدلًا، لكن هذا السعي نفسه قد يجعل الوصول إلى اتفاق نهائي أكثر بطئًا وصعوبة.
وهكذا يبقى مستقبل “خطة السلام28” مرتبطًا بقدرة الأطراف الأمريكية والأوروبية والأوكرانية والروسية على تقليص فجوات اخبار عمان، لا تكبيرها، وعلى إيجاد صيغة تجمع بين الواقعية السياسية والعدالة الاستراتيجية، من دون أن يتحول السلام إلى إعلان استسلام ولا إلى وصفة لحرب جديدة مؤجلة.
