لا يتعلق الأمر بدليل عملي عادي كما نعتقد عند قراءة العنوان، بل برواية حقيقية تتضمّن نصائح مُستخلصة من تجربة واقعية عاشها كاتبها الفرنسي ألكسندر لاكروا.

يُعرف لاكروا في الأوساط الأدبية الفرنسية برواياته العديدة وكتبه البحثية. كذلك يشتهر بإدارته لأرقى مجلة فكرية على الإطلاق هي “مجلة الفلسفة” الواسعة الانتشار، وهو أحد مؤسسي مدرسة الكتابة “Les Mots” أو الكلمات.

الرواية الصادرة عن منشورات “ألاري” 2025، ترصد خبايا الإبداع وطرق النجاح فيه. وهي تبدأ من حلم شاب في أن يحصل على صفة كاتب، وتنتهي بتأكيد هذا الحُلم وتحقيقه على أرض الواقع.

 يقول الكاتب “لم أكن أعرف أحداً في الوسط الأدبي. انطلقت من لا شيء، من حلم لا غير، وتمكّنت مع ذلك من إنهاء مخطوطي ونشره. تلمّست الطريق، وارتكبت أخطاء كثيرة، ارتكبت الكثير من الأخطاء، لكني تلقّيت نصائح أيضاً وضعتني على الطريق الصحيح”.

الكتابة بضمير الأنا

هذه الطريق يسلكها الكِتاب في فصوله الكبرى: إيجاد موضوع، والعمل على المخطوط، والنشر أخيراً. 

إلا انها تتحقّق في العمق بتوازٍ مع مسار حياة درامي تلتقي فيه شخصيات مرسومة بعناية، وأحداث ذات دلالة، لعبت دوراً في صوغ شخصية البطل/ الكاتب الناشئ. وبحث عن معنى للوجود والذات خلف كل ذلك.

 إن الهدف برأي الكاتب ليس القدرة على إيجاد الكلمات وترتيبها في جمل وفقرات وفصول، بالاعتماد على تنمية طاقة كتابية مُدرّبة ومُجرّبة، على طريقة المدرسة الأنجلوساكسونية المختصة في محاضرات التلقين الروائي الجامعية، التي تستند على إتقان التقنية وتتبع مناهج معيّنة والنسج على منوالها. 

بالنسبة لألكسندر لاكروا، هذه الحالة لا تكفي وحدها؛ إذ “لا يمكن للإنسان أن يتقدّم في كتابته ما لم يَعْبُر في الوقت نفسه تجارب محدّدة، ويلتَقي أشخاصاً، ويواجه نصيبَه من المآسي. فالكتابة لا تعني صوغاً للألفاظ فقط، بل مغامرة إنسانية كاملة”. 

وبمعنى آخر، ينبغي أن تكون الكتابة مغموسة في ماء الحياة، ذلك الماء الذي يكون في الغالب ضحلاً وثقيلاً أكثر منه صافياً وسلساً.

إنها كتابة تنبع من ضمير الأنا الذي يَعي مسؤوليته تجاه ما يطمح إلى بلوغه، انطلاقاً من واقعه الشخصي، ومن العالم الذي يحيط به. أي أنه لا بدّ للكاتب أن يدخل في تماس مع إنسانيته الخاصة ومع إنسانية الآخرين. 

عندئذٍ فقط يستطيع أن يغوص في أعماق الكلمات، ويجعلها قابلة للانكشاف والقراءة.

الدافع الشخصي 

تتجلى إنسانية ألكسندر لاكروا أولاً في ما يسميه كلمات الغياب. وذلك بعد أن كان شاهداً على حادث انتحار والده، حين كان في الحادية عشرة من عمره، فجاءت باكورة رواياته تدور حول تلك الحادثة وما أعقبها من حداد. 

لقد بدا موت الأب ظلاً كثيفاً خيّم على تلك المرحلة من بداية شبابه. فحلّت في ذهنه فكرة تأسيس مشروع أدبي خاص. هذا ما شجّعه أكثر بعد أن لاحظ أن الكثير من الكتّاب نشأوا في غياب آباء، فلامس ذلك شيئاً عميقاً فيه، ودفعه إلى المضي أبعد. 

يقول: “الأب يعطي الاسم، لكنه بعيد غامض، أو غائب. يجب عليك أن تسكن هذا الاسم كمساحة فارغة. جيمس جويس، في “عوليس” يقترح أن الكتابة محاولة ليصبح الإنسان والده الخاص.. المؤكّد أننا نبدأ الكتابة؛ لأن ثمة شيئاً ناقصاً، لأننا نعيش غياباً”.

لكن ليس غياب الأب بشكل مأساوي كنقص يفترض ملأه بالكتابة هو المحدّد الوحيد والرئيس. هناك أيضاً محدّد ثان بالأهمية نفسها، يخصّ كل حالم بالأدب، وهو الخروج من الوحدة، واختبار القدرة على الحب.

 “كان المراهق الذي كنتُه يشعر بوحدة شديدة، كأنه مهجور، عاجز عن الحب. وكلما أصبحتُ قادراً على اختبار الشعور بالحب، انفتحت كتابتي أكثر”. هنا نبلغ فكرة جوهرية، كي يتمكّن المرء من إنجاز مخطوط جدير بالنشر، لا بدّ أن يمتلك القدرة على ممارسة كتابة تتوجّه إلى الآخرين وتخاطبهم. 

هذا الأمر يرتبط بالحبّ أو بالدخول في علاقة إنسانية عميقة، وهو جانب لا يشرحه أيّ دليل، ولا يمكن لأيّ كتاب إرشادي أن يحيط به.

 الكاتب لا يرى جدوى في الإلهام بوصفه لمحات عابرة، ولا في انتظار اللحظات الاستثنائية كي تبدأ الكتابة. بل هو لا يعتقد بالكتابة التي تأتي من فراغ أو من لحظة متعالية، بل بالعمل اليومي والانخراط الفعلي في فعل الكتابة والحياة معاً.

مواجهة جدار رمادي 

بعد أن تطالعنا هذه الحالة الأولى، وهذه الأسباب الحاسمة، نفهم أكثر الخطوات العملية التي تجعل الإبداع الكتابي ممكناً كما خبره ألكسندر لاكروا. 

ولكي يحصل ذلك، كان عليه أن يكون مستقلاً بذاته، وهو في السابعة عشرة من عمره، فاستأجر شقة كان أبرز أثاثها كتباً في المقام الأول. ثم المكتب في المقام الثاني، الذي يجب أن يكون في وضع مناسب. 

يقول: “وبقي الأهم. كنت متردداً في اختيار المكان المناسب له. جرّبت وضعه أمام النافذة، لكن المشهد كان سيُلهيني. فكل مرور عابر في الزقاق أو حتى طير طائر، كان كفيلاً بأن يرفع رأسي. لذلك اخترتُ حلاً أكثر تقشّفاً، وثبّتّ المكتب بمحاذاة جدار رمادي. علّقت عليه مصباحي المعماري وأشعلته”.

الجُمل تظهر لوحدها

هكذا، وبفضل موضوع شخصي قوي لا يمكن الإفلات من أثره، أي انتحار الأب كما أسلفنا، ومع تحديد المكان الملائم للكتابة، جلس الشاب يزجّ الأوراق البيضاء في آلته الكاتبة. لقد وضع الشرطين الأساسيين، وهما توفر القصّة التي بالإمكان روايتها فعلاً، ووجود تجارب يسهل تحويلها إلى مادة أدبية. 

المسألة مادية محضة، ولا علاقة لها بالأحاسيس والنوايا الحسنة في البداية. يقول: “لا يكفي أن يشعر المرء كي يكتب؛ بل يجب أن يعرف كيف يختبر بعمق يكاد يكون طقوسياً، وأن يلتقط الفروق الدقيقة كما يميّز العطّار رائحة خشب مبتل بعد المطر”.

بعدها، وكما يصرّح عبر ثنايا الكتاب، ومن خلال حواراته العديدة، يُفسح المجال للجُمل كي تنبثق من تلقاء ذاتها. ذلك على غرار ما يفعل المرء حين يُعيد تشكيل حلم ما أو حين أو يستعيد ذكرى. ولا يجب إعاقة هذا الانسياب. بعد ذلك تأتي بالطبع مرحلة التنقيح وحذف الترهّلات من النص، وإضافة ما يُغني المسودّة الأولى. 

نكتب مع الآخرين ونكبر بهم 

كل هذا رائع وجميل، لكن ماذا عن المرحلة التالية المنطقية والصعبة أحياناً، وهي رؤية الرواية منشورة ومقروءة؟ هنا يتم الانتقال إلى جوهر الرواية ذاته، أي المعطى الحكائي المحض، حيث نتابع سرداً يُظهر البطل في رحلة البحث داخل عالم الأدب عمن يقدّر مخطوطته. 

هذه الأرض الأدبية ضيقة، تضم كُتّاباً ونقّاداً وناشرين، واللقاءات هنا ليست مصادفة دائماً، بل غالباً ما تُصنع عمداً من خلال ارتياد المقاهي والسهرات بانتظام، ما أتاح له تدريجياً أن يجد ذاته.

يظهر تعريف ثانٍ للحياة في نظر الراوي. ففي التعريف الأول كانت الحياة مادة للكتابة، أما في التعريف الثاني فهي ميدان لبناء العلاقات الضرورية، حتى يرى العمل الروائي النور. 

ألكسندر لاكروا لا يخفي شيئاً في هذا الصدد؛ الكتابة غابة، ولا يكفي أن تكون موهوباً لتصل إلى مبتغاك. يقول عن ذلك: “نحن نتحدث عن فن، وفي كل فن توجد عملية نقل وتوارث. يجب أن نلتقي بأشخاص يقومون مقام الآباء، أشخاص ذوي خبرة”.

حدث بالفعل أن التقى لاكروا بالشاعر بيير لوبير في مكتبة، واسم لوبير يحمل دلالة الأبوة. أصبح هذا الشاعر صديقاً له، ووضّح له أن النجاح “ليس في دخول مقبرة العظماء أو بلوغ الخلود، بل في الانضمام إلى فرقة مرحة إلى حدّ ما، تضم الكُتّاب الآخرين”.

شاركها.