لطالما شكّلت المملكة العربية السعودية أحد الأعمدة المحورية للاقتصاد العالمي، ليس فقط بقدرتها على إنتاج الطاقة، بل بقدرتها على إعادة تعريف حدودها. واليوم، تمضي أرامكو السعودية خطوة أبعد من استخراج الموارد الطبيعية إلى استثمار أكثر موارد الكون تعقيدًا، وهي ميكانيكا الكم.

ففي خطوة تُعيد رسم خريطة الابتكار في المنطقة، أعلنت أرامكو السعودية؛ تشغيل أول حاسوب كمي صناعي في الشرق الأوسط، بالشراكة مع شركة (باسكال) Pasqal الفرنسية المتخصصة في الحوسبة الكمية بالاعتماد على تقنية الذرات المحايدة.

ولا يُعدّ هذا الإنجاز مجرد إضافة إلى البنية الرقمية للشركة، بل إشارة مفصلية إلى دخول المملكة سباق الحوسبة الكمية بثقة، إذ يضعها في مقدمة الدول، التي تمكّنت من نقل الحوسبة الكمّية من المختبر إلى الاستخدامات الصناعية الحقيقية.

حاسوب كمّي في قلب الظهران:

يأتي تركيب الحاسوب الكمي في مركز بيانات أرامكو في الظهران ليكون أول نظام من نوعه في المملكة والمنطقة مخصص للاستخدامات الصناعية الواسعة، في خطوة تؤكد طموح السعودية في بناء قاعدة تقنية متقدمة تتجاوز حدود الحلول التقليدية.

يمثل تدشين أول حاسوب كمي في الشرق الأوسط مخصص للتطبيقات الصناعية، بالشراكة مع باسكال، إنجازًا كبيرًا في مسيرتنا الرقمية، بما يدعم جهودنا في تعزيز الكفاءة التشغيلية وتسريع الابتكار، واستكشاف التقنيات الرقمية المتقدمة pic.twitter.com/8tVepWfAtR

— أرامكو (@saudi_aramco) November 24, 2025

ويعتمد الحاسوب الكمي الجديد على مصفوفة 200 كيوبِت من الذرات المحايدة، وهي بنية معروفة بقدرتها على تنفيذ عمليات كمّية عالية الدقة، ما يمنح المنظومة قابلية واسعة لمعالجة مسائل لم تكن ممكنة عبر الحوسبة التقليدية.

وتؤكد أرامكو أن امتلاك هذا النظام يمثّل بداية لمرحلة جديدة من التطبيقات الصناعية، خصوصًا في تحليل البيانات المعقدة، ومحاكاة سلوك المواد، وتحسين العمليات التشغيلية في قطاع الطاقة.

لماذا الحاسوب الكمّي تحديدًا؟

تعتمد صناعة الطاقة على حل مشكلات بالغة التعقيد تتعلق بفهم تفاعلات الجزيئات الدقيقة، ومحاكاة تدفق الموائع، وتحسين سلاسل الإمداد الضخمة، التي تربط عمليات الاستكشاف بالإنتاج والتوزيع، وتتطلب هذه المشكلات قدرات حاسوبية تفوق ما يمكن للأنظمة الكلاسيكية تقديمه.

وهنا يأتي دور الحوسبة الكمّية، التي تستند إلى خصائص ميكانيكا الكم لتوفير قوة معالجة استثنائية. فالنظام الذي جرى تشغيله في مركز بيانات أرامكو في الظهران قادر على التحكم في 200 كيوبت (Qubit) ضمن مصفوفات ثنائية الأبعاد قابلة للبرمجة، وهي بنية تمنح القدرة على معالجة نماذج معقدة كانت تستغرق شهورًا أو تُعدّ مستحيلة سابقًا.

وتفتح هذه القفزة الحاسوبية الباب أمام تطبيقات واسعة، أبرزها:

  • الكيمياء والمواد الجديدة: محاكاة تفاعلات الجزيئات بدقة لتصميم محفزات أكثر كفاءة لعمليات التكرير، أو تطوير مواد متقدمة لاحتجاز الكربون بتكلفة أقل، وحتى تحسين كفاءة البطاريات وخلايا الوقود بشكل جذري.
  • تحسين العمليات التشغيلية: حل مشكلات التحسين في شبكات الإمداد، وتوزيع الطاقة، وجدولة أعمال المصافي لتقليل الهدر وزيادة الكفاءة التشغيلية إلى مستويات غير مسبوقة.
  • الاستكشاف والإنتاج: معالجة البيانات الزلزالية الضخمة والمعقدة وتحليلها بنحو أسرع وأكثر دقة لتحديد مواقع الاستكشاف الجديدة.

توطين التقنية وبناء المواهب:

لم يكن هذا الإنجاز وليد اللحظة؛ إذ تعود جذوره إلى الاستثمار الإستراتيجي الذي قامت به (واعد فنتشرز)، الذراع الاستثمارية لأرامكو، في شركة (باسكال) منذ يناير 2023، وسمح هذا الاستثمار بتأسيس حضور قوي للشركة في المملكة، وتوطين جزء من قدراتها وأبحاثها وفرقها الهندسية.

كما تتضمن الشراكة جانبًا تعليميًا، إذ ستقدم (باسكال) برامج تدريبية وفرصًا بحثية مشتركة للمهندسين والعلماء السعوديين. ويهدف هذا الاستثمار في تطوير المواهب إلى بناء منظومة كمّية مستدامة، مما يضمن أن المملكة لن تكون مستهلكة للتقنية بل مطورة ومبتكرة لها.

كيف سيغيّر هذا الحاسوب الكمّي مستقبل الطاقة؟

تُعدّ الحوسبة الكمّية محركًا مهمًا للابتكار في الصناعات، التي تعتمد على الحسابات المعقّدة، لذلك سيضع إطلاق هذا الحاسوب الظهران كمركز إقليمي متقدم في سباق الحوسبة الكمّية. وتشمل التطبيقات المحتملة التالي:

  • تسريع التحول الرقمي: إدماج التقنيات الكمّية يسرع من أهداف أرامكو في تحقيق الكفاءة التشغيلية والحياد الكربوني.
  • تعزيز الابتكار الأخضر: سيساعد هذا الحاسوب في استخدام قوة الكم لتطوير حلول جديدة للطاقة المتجددة واحتجاز الكربون بنحو أكثر فعالية، مما يدعم التزامات المملكة المناخية.
  • الريادة الإقليمية في المعرفة: صنع قاعدة معرفية متقدمة تخدم قطاعات الصناعة والمواد الأخرى في المنطقة، لتصبح السعودية مرجعًا في هذا المجال.

باختصار، أرامكو لا تكتشف طريقة جديدة لإنتاج النفط فحسب؛ بل تفتح الباب لاكتشاف طرق جديدة لتوليد الطاقة، وتخزينها، وتوزيعها، مما يضمن أن تكون المملكة لاعبًا محوريًا في صياغة ملامح عصر الطاقة الكمّي الجديد.

شاركها.