اخبار تركيا

في مقال بموقع الجزيرة مباشر، تناولت الكاتبة والباحثة المصرية صالحة علام، دوافع تركيا للتدخل في الصراع السوداني، موضحًا أن رغبتها في الوساطة لا تنبع فقط من طموحات النفوذ أو الحنين إلى الإرث العثماني، بل من حسابات جيوسياسية عميقة تجعل السودان بوابة استراتيجية نحو وسط إفريقيا والبحر الأحمر.

تشير الكاتبة في مقالها إلى أن أنقرة ترى في استقرار السودان فرصة لتعزيز حضورها في القرن الإفريقي، وتأمين خطوط نفوذها البحرية، وحماية مشاريعها الاقتصادية وفي مقدمتها اتفاقيات سواكن واستثمارات الطاقة والبنية التحتية.

كما يسعى الدور التركي بحسب الكاتبة إلى موازنة نفوذ قوى إقليمية منافسة، خصوصًا في البحر الأحمر، رغم أن دعم أنقرة للجيش السوداني يقلل من حياديتها ويضع تحديات أمام نجاح وساطتها. وفيما يلي نص المقال:

خلال مشاركته في مؤتمر صحفي بختام قمة قادة دول مجموعة العشرين التي انعقدت بجوهانسبرج عاصمة جنوب إفريقيا، أعلن الرئيس أردوغان أن بلاده “ستستمر في سعيها لوقف الصراع الدامي بالسودان، واستعدادها التام للتعاون مع جميع الأطراف الفاعلة في هذا الملف من أجل إعادة الأمن والاستقرار للبلاد تلبية لمطالب الإخوة هناك”.

تصريح قصير اختصر موقف القيادة التركية اتجاه ما يحدث في السودان، ورؤيتها للصراع المتفاقم منذ عامين، وخطواتها المستقبلية لوقف نزيف الدم هناك. وهو ما أثار العديد من التساؤلات حول الأسباب الخفية للرغبة التركية في التدخل في صراع يبعد عن أراضيها آلاف الكيلومترات، ولا يمثل اندلاعه أي تهديد لأمنها القومي مثلما هو الحال في الملف السوري على سبيل المثال. فهل وراء موقفها هذا سعيها الدؤوب لتوسيع نطاق نفوذها، ورغبتها المحمومة في استعادة ميراث الدولة العثمانية جغرافيًّا وتاريخيًّا؟ أم أن هناك ما هو أكثر أهمية لها في السودان، تخشى عليه، وترغب في تأمينه والحفاظ عليه؟

الحقيقة أنه لا يمكن إنكار أن تركيا تسعى منذ عقود لأداء دور ملموس يؤمّن لها مكانة سياسية ودبلوماسية على الصعيدين الإقليمي والدولي، ويحقق لها هدفها في أن تكون لاعبًا مؤثرًا وأحد صناع القرار على مستوى العالم. لذا تعمل جاهدة من أجل الوجود بقوة وأداء دور الوسيط الموثوق به لحل القضايا الخلافية والمشكلات المتفجرة، كما سبق أن حدث في الأزمة الروسية الأوكرانية، وملفات قبرص، وليبيا، وسوريا، والعراق، وسعيها للتوسط حتى بين الولايات المتحدة وإيران.

كما لا يمكن تجاهل الأحلام التي لا تزال تداعب خيال النخبة السياسية الحاكمة، الراغبة بشدة في استعادة ميراث الإمبراطورية العثمانية وبعثه من جديد، لكن بصورة تتلاءم مع المتغيرات التي شهدها العالم على مدى المئة عام الماضية، وهي عمر الجمهورية التركية التي بُنيت على أنقاض الدولة العثمانية. وهو ما يمكن رصده في توجهات السياسة الخارجية التركية، ومحاولاتها الدؤوبة لتقريب المسافات الجغرافية والاستراتيجية والسياسية بينها وبين دول العالم الإسلامي، خاصة تلك التي كانت يومًا ما تحت حكم سلاطين آل عثمان.

إلا أنه لا يمكن حصر الأمر في هذين العاملين وجعلهما سببين وحيدين ترتكز عليهما النظرة التركية اتجاه السودان، أو تنطلق منهما سياستها الخارجية بشأنه. فالأسباب التي تدفع أنقرة للدخول بقوة على خط الأزمة السودانية تتعداهما إلى ما هو أكثر عمقًا وأكبر تأثيرًا على استراتيجيات أنقرة وخططها المستقبلية في العديد من المجالات.

تركيا تدرك أهمية السودان باعتباره مدخلًا لها إلى وسط إفريقيا، ومنصة يمكن عن طريقها تحقيق مصالحها الاستراتيجية السياسية والعسكرية والاقتصادية في إفريقيا عمومًا، والبحر الأحمر على وجه الخصوص. وترى أن استقراره وعودته إلى المجتمع الدولي دولةً آمنة مستقرة يمكن أن يسهم بصورة فعالة في توسيع نفوذها وترسيخ أقدامها بمنطقة القرن الإفريقي، في إطار المنافسة الدائرة بينها وبين إسرائيل في هذه المنطقة الحيوية من العالم.

فعلى الرغم من امتلاك تركيا وجودًا فعليًّا في البحر الأحمر وقاعدة عسكرية في الصومال، فإن طول الساحل السوداني على البحر الأحمر، الذي يُعد ممرًّا مهمًّا للتجارة العالمية ومؤثرًا في العلاقات الإقليمية، نظرًا لتوسطه ثلاث قارات: إفريقيا، وآسيا، وأوروبا، وكونه نقطة التقاء استراتيجية بين البحر المتوسط والمحيط الهندي، يجعل توسيع نطاق وجودها فيه أمرًا مهمًّا بالنسبة لها.

يُعد ساحل السودان، الذي يتجاوز 700 كيلومتر، الأكثر إغراءً لتركيا، والأوفر ملاءمة لتحقيق أهدافها العسكرية والأمنية والاقتصادية. إذ لا يخفي المسؤولون الأتراك اهتمامهم بالحفاظ على أمن السودان وإفريقيا والبحر الأحمر، لما لذلك من تأثير إيجابي في أمن قاعدتهم العسكرية بالصومال وفي مكانتهم الإقليمية والدولية.

ويتجلى هذا الاهتمام في اتفاقية إدارة ميناء سواكن لتحويله إلى مرسى لصيانة السفن المدنية والعسكرية، وكذلك في اتفاقيات أمن البحر الأحمر التي أُبرمت مع السلطات الحالية. فالجزيرة التي كانت مركزًا مهمًّا للبحرية العثمانية في البحر الأحمر تُعد موقعًا استراتيجيًّا الآن، إضافة إلى رمزيتها التاريخية وما تمثله من ارتباط وجداني للنخبة السياسية في أنقرة.

لا تنظر تركيا إلى السودان على أنه أداة لتنفيذ طموحاتها الاستراتيجية فقط، بل على أنه حليف اقتصادي وتجاري يمكن أن تعود الشراكة معه بالنفع على الطرفين. فهي تسعى لاستثمار موارده الطبيعية من نفط ومعادن، وتطوير البنية التحتية والزراعة والطاقة والصناعة والموانئ والمطارات والطرق السريعة ومشروعات التحول إلى الطاقة النظيفة.

مثل هذه المشاريع تُعزز مكانة تركيا التجارية في الأسواق السودانية وأسواق شرق ووسط إفريقيا، وتتيح لها مكاسب سياسية تعزز نفوذها في إحدى أكثر المناطق أهمية في العالم اليوم اقتصاديًّا وبيئيًّا وأمنيًّا.

التحرك التركي للوساطة بين طرفي النزاع يهدف إلى حماية استثماراتها في السودان وتشغيل الاتفاقيات السابقة. غير أن نجاح أنقرة في هذا الملف يتطلب جهودًا مضاعفة مقارنة بالوساطة التي قامت بها في الحرب الروسية الأوكرانية، بسبب افتقارها للحيادية ودعمها المُعلن للدولة السودانية وتسليمها صفقات طائرات بيرقدار التي غيّرت موازين المعركة لصالح الجيش السوداني وأعادت سيطرته على الخرطوم وعدد من الولايات.

شاركها.