علي عيد

ها نحن على مشارف مرور عام على التحرير، طويت حقبة بكاملها، تاركة إرثًا ثقيلًا من تاريخ المنع الإعلامي، ولعل حرية الإعلام أكبر المتضررين فيها، مع أمل أن تكون أول المتعافين بعدها.

تحتاج سوريا اليوم إلى إدارة الرسالة، كما حصل في أمريكا مع بداية الحرب العالمية الثانية، لأن إدارة السرد باتت من عناصر الأمن الوطني.

باعتبار الإعلام يمثل أهم تجليات حرية التعبير، وباعتباره إحدى أهم الأدوات التي تشكل خطرًا على مستقبل البلاد ونهضتها، يبدو أن المصاعب كبيرة، وأن العمل بلا خطة هو أشبه بخلطة أوهام، أو أحلام يمكن تبديدها دون وعي.

تاريخ قريب من اليوم، هو 1 من كانون الأول 1942، نشأ مكتب المعلومات الحربية الأمريكي (Office of War Information – OWI)، وكان واحدًا من أخطر التحولات في علاقة الدولة بالإعلام في القرن الـ20، يومها ولدت “الدعاية الحديثة” التي نعرفها اليوم، ويمكن اعتبارها لحظة إدراك العالم أن الحرب لا تُدار بالسلاح فقط، بل بالقصص، والصور، ورواية الحدث، وما أحوج سوريا إلى هذا الوعي.

قبيل دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية أواخر 1941، اكتشف الأمريكيون أن المشهد الإعلامي في بلادهم ممزق بين وكالات متفرقة تنتج مواد دعائية، وإذاعات وصحف بلا تنسيق موحد، ورأي عام غير متماسك لا يدرك معنى وحجم الحرب.
قررت الحكومة جمع الإعلام في جهاز واحد “ضخم” تضخ فيه الموارد والخبراء، هو “OWI”، كغرفة عمليات تعمل على مدار الساعة لصناعة الرواية الأمريكية عن الحرب.

رسائل داخلية للمواطنين، وخارجية للعالم، ورقابة ناعمة، وإدخال لـ”هوليوود” عبر تحويل السينما إلى قوة تعبئة جماهيرية.

هل ندعو إلى سيطرة الدولة عندما نتحدث عن النموذج الأمريكي وقتذاك؟ لا يبدو الأمر كذلك، ولا نية خبيثة في الدعوة إلى هذا التوجه، فقد أغلقت الولايات المتحدة “OWI” بعد الحرب (1945)، وبقي أثره غير المرئي حتى اللحظة، وإن بصورة عصرية، إذ يعتبر ذلك المكتب “الأب غير المعلن” لمفهوم “الرسائل الحكومية” الحديثة.

أدرك الأمريكيون وقتها أن ربح الحروب الحديثة لا يكون بالمدافع فقط، بل بتحريك الوعي.

تشهد سوريا اليوم انقسامًا مجتمعيًا عميقًا، وانتشارًا لخطاب الكراهية عبر المنصات الرقمية، وضعف الثقة في المؤسسات الإعلامية، خصوصًا بعد أحداث الساحل والسويداء، مع دفع الكثير من المؤثرين ورجالات النظام السابق في هذا الإطار.

وفوق ما سبق، هناك خصم إقليمي، إسرائيل، لا يريد بلدًا قويًا ومستقرًا بجواره، ويعبث بكل الأوراق الممكنة لتمزيق سوريا وإضعافها.

أي خطة تتبناها الحكومة في دمشق يجب ألا تمس جوهر الحرية الذي تعهدت به، وإنما يجب أن تركز على تحويل الإعلام إلى جسر للوحدة الوطنية، وآلة فعّالة لإدارة الأزمات، ومحاربة الخطابات التحريضية، عبر إعلام شفاف يعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة ودمج الفئات المهمشة في السردية الإعلامية، واستغلال “السوشيال ميديا” في تعزيز الحوار بدلًا من تعميق الانقسامات.

والمقصود ليس الرقابة وكمّ الأفواه، بل القدرة على تقديم رواية وطنية موحدة في أوقات الانقسام.

وبخصوص خصوم الخارج، يتطلب الأمر تضييق المساحة أمامهم ومنعهم من صناعة الرواية وتوجيه الجمهور.

تحتاج سوريا إلى إدارة واحدة لتنسيق الرسالة الوطنية، ومعلوم أن الدولة لم تعد اللاعب الوحيد، وينطبق هذا حتى على الولايات المتحدة، حيث هناك شركات تدير منصات عملاقة (جوجل، ميتا، تيك توك)، ومختبرات بيانات، وجيوش إلكترونية، ومؤثرون، وجماعات ضغط رقمية، و”روبوتات” (بوتات) توزع السرديات. وكل ذلك التعدد حوّل السيطرة إلى معركة ضبابية تتنازع فيها الأطراف الجمهور.

لقد تحول العالم إلى غرفة واحدة، تخضع لتوجيه خوارزمي.

انتقل العالم من فكرة تشبه “OWI” إلى التحكم الرقمي، إذ تقوم الخوارزمية برفع محتوى وخفض آخر، وإغراق المستخدم في الفقاعة، الدفع بقصة معينة بقوة وقتل قصة أخرى بالوصول الضعيف.
الجمهور لم يعد يرى اللاعب الحقيقي خلف الستار، وثمة من يمارس هندسة الانتباه والسلوك.

مسؤولية خلق المشاعر الوطنية لم تعد مجرد إقناع يعتمد على التشجيع، الخوف، كشف العدو المشترك، البطولة، وأصبح الخطاب الموحد لشعب كامل أشبه بالمستحيل، فكل مستخدم يحصل على رواية مصممة حسب سلوكه وبياناته ونقاط ضعفه، ومن يخاف الفوضى يجري دراسة سلوكه رقميًا وتغذيته بأخبار الانهيار ونظريات المؤامرة، ومن يبحث عن الثقة تصله رسائل تشبهه.

انتهكت التكنولوجيا الجغرافيا، وأصبح بإمكان أي خصم دولي التلاعب بجمهور خصمه من الداخل، عبر دعاية دون اسم ولا توقيع، وعندها ليس هناك من يحاسب، ولا من يواجه.

هل يستطيع الإعلام المستقل أو الخاص القيام بهذا الدور، وهل هي مسؤوليته؟ بالطبع لا، وربما يحصل العكس بأن يشكك هذا الإعلام بتنفيذ خطة من هذا النوع، وهو أمر مبرر.

مهمة بناء الرواية الوطنية تقع على عاتق الدولة، وتبدأ بالإعلام ولا تنتهي فيه، إذ يتطلب الأمر إشراك القوى الناعمة (الفن والثقافة)، والمجتمع المدني، والمؤثرين، هي مهمة صعبة وغير مستحيلة.

لا تتحمل سوريا اليوم رفاهية ترك روايتها في يد الآخرين.. وللحديث بقية.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.