يُعدّ فيلم Sirat، للمخرج الإسباني–الفرنسي أوليفييه لاكس، أحد أبرز الأعمال التي أثارت نقاشاً واسعاً خلال الدورة الثانية والعشرين للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش، بعد عرضه ضمن العروض الخاصة خارج المسابقة الرسمية، وهو الفيلم الذي سبق أن نال جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان الأخير.
فالعمل لا يترك لمشاهده مساحة للحياد؛ إذ يضعه مباشرة أمام فضاء بصري فسيح ومهيمن يتحوّل إلى الشخصية المركزية في الفيلم، بفضل الكيفية الحادة والعميقة التي صوّره بها لاكس، والتي تتجاوز ما اعتادته السينما المغربية، بل وتتفوّق على محاولات عديدة في الإنتاجات الهوليوودية التي تناولت الصحراء عبر تاريخها.
لاكس، الذي راكم خبرة طويلة في التصوير بالمغرب، يعود هذه المرة ليقدّم حكاية تتقدّم فيها الشخصيات نحو مصائرها بوعي كامل، كما لو أنها منذورة لموت محتوم لا تتراجع عنه ولا ترتاب منه، في رحلة تنسج مزيجاً من الصوفية البصرية والرهان الوجودي.
المرجعيات الإسلامية
في لقائه مع “الشرق”، تحدّث أوليفييه لاكس عن الحضور اللافت للمرجعيات الإسلامية في الفيلم، بدءاً من عنوانه وحمولته الروحية وصولاً إلى الإشارات المتناثرة داخل السرد الصامت والبطيء، “طريق الصراط يتجلّى في فيلمي بشكل فيزيقي وميتافيزيقي معاً، فالأب يقوم برحلة داخلية عميقة، ويبلغ الوجهة التي كان يبحث عنها، ويمارس نوعاً من الجهاد النفسي”.
وتابع: “كل فيلم يحمل وجهة نظر مخرجه للعالم، السينما التي أصنعها متأثرة، مباشرة أو ضمنياً، بالقيم الإسلامية، وأعتقد أن الصراط كما نعرفه في الإسلام، خصوصاً في التيارات الباطنية، حاضر في الفيلم بشكل خفي وغير مباشر. قد نصيب وقد نخطئ، لكن الدافع الأساس هو محاولة استحضار عالم سحري، عالم أينما وجهت بصرك رأيت فيه الله”.
“الموت كخلاص”
ويشرح لاكس نظرته لحضور الموت في الفيلم، قائلاً: “العديد من المشاهدين الغربيين حزنوا حين شاهدوا الشخصيات تموت تباعاً، لأنهم تماهوا معها، وهذا طبيعي، لكن السؤال الذي أطرحه ليس: لماذا نموت؟ فهذا سؤال غبي، نموت حين يحين وقت موتنا، فهذا هو المكتوب، السؤال الحقيقي هو: كيف نموت؟”.
وأضاف: “شخصيات الفيلم تموت بكرامة وبعزة نفس، وأرواحها تتسامى، الله لا يعطينا ما نبحث عنه، بل ما نحتاجه، وهذا، بالنسبة لكائنات محكومة بالفناء، يورث شيئاً من الإحباط، أردت أن أُظهر لحظة يتحرّر فيها الإنسان من الخوف؛ لهذا تبدو الشخصيات كأنها تدخل في صفاء داخلي قبل موتها”.
وأكد أن الفيلم “محاولة لعبور خط رفيع بين الحياة والموت، بين الأرض والسماء.. وربما لهذا اخترت عنوان Sirat، إنه ليس مفهوماً دينياً فقط، لكنه حالة وجود”.
“الفضاء شخصية رئيسية”
واعتبر أوليفييه لاكس أن الطبيعة ليست مجرد خلفية في فيلمه، إنما هي كيان ناطق يتقدّم إلى الواجهة، “أنا لا أصوّر الطبيعة لأنها جميلة، بل لأنها تعبر وتتكلم وتضعنا على المحك، الله يتجلى فيها ويمتحننا، أحب التصوير في الطبيعة؛ لأنها تصنع الفيلم بنفسها، بضوئها وعناصرها، نحن لسنا أحراراً تماماً عندما نصور داخلها”.
وأضاف: “يجب أن نطلب من الفضاء أن يمنحنا نفسه لنكون جديرين به، أن نؤنسنه كي لا نبقى غرباء عنه، أمام الفضاءات المغربية أجدني صغيراً، مقزماً وضعيفاً، وهذه الدرجة الصفر هي حقيقتي، منها تستمد روحي السكينة والسلام الداخلي، ما يثيرني دائماً في المغرب هو أن الطبيعة هنا كيان روحي وليست مجرد منظر”.
واختتم لاكس حديثه بالإشارة إلى ما يشكل دافعه الأعمق لصناعة السينما، قائلاً: “أنا لا أصنع أفلاماً عن الواقع فقط، لكن عن ما يختبئ وراء الواقع، أحاول دائماً التقاط ما يسميه المتصوفة (ومضة الحقيقة)، الطبيعة تساعدني في ذلك: الضوء، العراء، الصمت، كلها مفاتيح للوصول إلى ما هو أبعد من الأشياء”.
