تواجه دول كونفدرالية دول الساحل الإفريقي “مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر” منذ عام 2023 تصاعداً ملحوظاً في الهجمات المنسَّقة التي تشنّها الجماعات المسلحة والمتشددة، والتي تتنوع بين كمائن، وسيارات مفخخة، وإطلاق نار بالأسلحة الثقيلة، والتي أسفرت عن خسائر بشرية كبيرة في صفوف المدنيين والعسكريين، وأسهمت في تفاقم حالة عدم الاستقرار التي تعيشها المنطقة.
ومنطقة الساحل كانت لسنوات مسرحاً لصراع معقّد، تتصادم فيه الجيوش الوطنية، والجماعات المتشددة، وميليشيات الدفاع عن النفس، إلا أنّ طبيعة الهجمات الأخيرة كانت لافتة للنظر بشكل ملحوظ.
ويمكن تفسير هذه الهجمات، أولاً، بالطموحات المعروفة للجماعات المتشددة في منطقة الساحل وغرب إفريقيا، وثانياً برغبة بعض الجماعات المسلحة في استغلال نقاط الضعف السياسية لدى الأنظمة العسكرية الحاكمة في مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو.
كما ترتبط الهجمات بسعي تلك الجماعات إلى إعادة ترتيب التحالفات الإقليمية والدولية، في ظل انسحاب فرنسا، التي تُعد الفاعل العسكري الغربي الرئيسي في المنطقة، وتدهور العلاقات معها، إضافة إلى توتر العلاقات مع الجزائر بالنسبة لمالي على وجه الخصوص.
وتسهم الحدود غير المُراقَبة، والشبكات العابرة للحدود الوطنية، والهشاشة الهيكلية الموروثة من الماضي، في إنتاج هذا الوضع وتعميقه.
وبالنسبة إلى دولة مالي، فإنّ البلاد تواجه تمرداً تقوده جماعات متطرفة امتدّ إلى مناطق لم تكن متأثرة به سابقاً، خاصة جنوب البلاد وغربها، وفي الوقت نفسه، تحتفظ الجماعات المتطرفة بحضور بارز في شمال مالي ووسطها، حيث تمارس سيطرة فعلية على بعض المناطق.
خارطة الجماعات المتشددة الناشطة في الساحل وغرب إفريقيا:
وتنشط هذه الجماعة بشكل رئيسي في مالي، وقد أعلنت سابقاً مسؤوليتها عن عدة هجمات كبرى، بما في ذلك الهجوم على قواعد عسكرية في يونيو 2025.
-
تنظيم “ولاية الساحل” التابع لتنظيم داعش
وينشط في منطقة الحدود الثلاثية بين “مالي وبوركينا فاسو والنيجر”، وهو مسؤول عن العديد من الهجمات ضد المدنيين وقوات الأمن.
وهي تشكيلات عسكرية منضوية تحت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين المرتبطة بالقاعدة تنشط في وسط مالي، وتتخذ اسمها من منطقة دلتا النيجر التاريخية في مالي المعروفة باسم ماسينا، وكثّفت مؤخراً هجماتها في شمال بوركينا فاسو باستخدام الطائرات المسيرة ضد المواقع العسكرية.
وقد كثّفت الجماعات المتشددة منذ منتصف السنة الحالية، هجماتها في العاصمة المالية باماكو ضد القوات المسلحة المالية، والمدنيين.
وفي مواجهة هذا الوضع، يعتمد النظام العسكري لدولة مالي على استراتيجيات عدة لمواجهة هجمات الجماعات المتشددة.
أبرز استراتيجيات مالي لمواجهة الجماعات المتشددة
-
تعزيز القدرات العسكرية:
أطلقت القوات المسلحة المالية عملية تحديث متسارعة لقدراتها في المراقبة والاستباق والضرب، لا سيما من خلال استخدام طائرات بدون طيار بعيدة المدى، وطائرات استطلاع، وطائرات مروحية هجومية.
-
العمليات المشتركة:
تُجري القوات المسلحة المالية عمليات مشتركة مع قوات الأمن لتفكيك الشبكات الإجرامية، واستعادة الاستقرار في المناطق المتضررة.
يدعو النظام العسكري السكان إلى مساندة القوات المسلحة في مهمتها لحماية الأشخاص والممتلكات.
-
مكافحة الدعاية:
يسعى النظام العسكري إلى مواجهة الدعاية الجهادية، وتعزيز الصورة الإيجابية للجيش والأمن الوطني.
-
التعاون الإقليمي:
شكلت مالي مع بوركينا فاسو، والنيجر “كونفدرالية” الساحل المعروف سابقاً بـ”تحالف دول الساحل” لتعزيز التعاون الأمني الإقليمي.
ويشيد المسؤولون في مالي بالجهود المشتركة التي تبذلها جيوش الدول الثلاث في إطار هذا التحالف، ويدعون إلى تعزيز تجميع الموارد والمعلومات الاستخبارية، بالإضافة إلى مواءمة الاستراتيجيات المحلية.
وساهم تحالف دول الساحل في تعزيز قدرة الدول الثلاث على مكافحة المتطرفين.
عمليات عسكرية مشتركة
وعززت الدول الثلاث “مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو” من تعاونها العسكري، وأنشأت قوة مشتركة قوامها 5000 جندي لمحاربة الجماعات المتطرفة، حيث نفذ التحالف عمليات مشتركة عدة:
- شنّ عدة غارات جوية ضد هذه الجماعات، ما أدى إلى تدمير مركبات وتحييد مقاتلين.
- التعاون مع السلطات المحلية والمجتمع المحلي شكل عاملاً رئيسياً في نجاح هذه العمليات.
- أنشأ التحالف قوة موحدة لتنسيق جهود مكافحة الإرهاب، وعززت الدول الأعضاء في الكونفدرالية، تعاونها العسكري والاقتصادي لتعزيز الأمن الإقليمي.
كما أقام تحالف الدول الثلاث شراكات مع دول ومنظمات أخرى لتعزيز قدرتها على مكافحة الإرهاب.
أبرز التحديات في مواجهة الجماعات المتطرفة
- لا يزال تنسيق القوات المسلحة للدول الأعضاء يمثل تحدياً رئيسياً.
- كما تظل مسألة التمويل المستدام لعمليات التحالف تحدياً قائماً.
- وتتطلب مكافحة الإرهاب مقاربة شاملة تجمع بين التنمية الاقتصادية وتعزيز السلام والاستقرار.
وفي المواجهات مع الجماعات المتطرفة، حقق النظام العسكري المالي، بدعم من قوات تدعمها قوات روسية تُسمى بـ”الفيلق الإفريقي”- قوات شبه رسمية روسية حلّت محل قوات فاجنر- بعض الانتصارات، إلا أن الوضع الأمني ما يزال يثير القلق، ولا سيما بسبب امتلاك الجماعات المتشددة قدرات هجومية كبيرة، خاصة من خلال استخدام الطائرات المسيّرة القتالية.
ورغم هذه الجهود، ما يزال الوضع الأمني في مالي مثيراً للقلق، حيث تستمر الهجمات المتطرفة في التأثير على مناطق عدة في البلاد.
فقد استفاد المهاجمون من ميزة الاستخدام العسكري للطائرات المدنية المُسيّرة التي يُشكّل استخدام الجماعات المُسلّحة لها تحدياً للتفوق الجوي لجيوش منطقة الساحل، المسؤولة بدورها عن مئات القتلى المدنيين بسبب الضربات العشوائية باستخدام المسيَّرات العسكرية التركية.
من أين يأتي المتشددون بالسلاح والدعم؟
ويثير تصاعد نشاط المتطرفين في إفريقيا، ولا سيما في منطقة الساحل، وفي مالي على وجه الخصوص، تساؤلات عديدة حول مصادر الأسلحة التي تمكّن هذه الجماعات من مواجهة جيوش نظامية بهذه الشراسة، رغم افتراض تفوّق هذه الجيوش في العتاد والتجهيز.
ومن هنا يبرز السؤال: من أين تأتي الأسلحة التي تستخدمها الجماعات المتشددة في منطقة الساحل؟ هذا هو السؤال الذي حاول تقرير صادر في شهر أبريل الماضي عن مركز أبحاث تسليح الصراعات (Conflict Armament Research – CAR)، وهو مشروع بحثي في المملكة المتحدة يتتبع الأسلحة المستخدمة في النزاعات حول العالم، الإجابة عنه.
المصادر الرئيسية للإمدادات
- نهب مخازن الجيوش الوطنية
تشير الدراسة، التي تركز على منطقة الساحل الأوسط “مالي، النيجر، وبوركينا فاسو” إلى أن الأسلحة التي تستخدمها جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” المرتبطة بتنظيم القاعدة، و”تنظيم داعش في منطقة الساحل”، تأتي في المقام الأول من نهب مخازن الجيوش الوطنية في المنطقة، إذ يشن أفراد هذه الجماعات هجماتٍ مستهدَفة ضد القوات المسلحة للاستيلاء على أسلحتها ومعدّاتها.
وأوضحت الدراسة أن واحداً على الأقل من كل خمسة أسلحة، أي ما يعادل 20% من ترسانة المتشددين العسكرية، يأتي من الجيوش النظامية في منطقة الساحل.
وتابعت الدراسة: “جُمعت هذه الأسلحة خلال هجمات برية شُنّت ضد قوات مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، إلا أن مركز أبحاث تسليح الصراعات حدّد أيضاً أسلحةً مصدرها هجمات ضد قوات “كوت ديفوار، وليبيريا، وليبيا، ونيجيريا، وتشاد”.
ووفقًا للباحثين، تُشكل هذه “الغنائم” العسكرية “المصدر الرئيسي للإمدادات” للجماعات المتشددة، بل وجعلتها “عنصراً أساسياً في استراتيجيتها المزدوجة: “مواجهة سلطات الدولة عسكرياً، والحصول على الأسلحة اللازمة لتنفيذ عملياتها”.
ويتجلى ذلك في دعاية “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، التي تنشر بانتظام مقاطع فيديو تعرض الغنائم.
- الأسواق السوداء المحلية
يحصل المتطرفون على أسلحتهم في الغالب من مصادر محلية. وقد تم تحليل أكثر من 700 قطعة سلاح تم استردادها خلال عمليات مكافحة الإرهاب بين عامي 2015 و2023، وتشمل بنادق، ورشاشات، وقاذفات، وقنابل يدوية، وقذائف هاون.
وتخلص الدراسة إلى أن الجماعات المتشددة تحصل على إمداداتها محلياً بشكل أساسي؛ بسبب “الإكراهات” اللوجستية “أي الصعوبات المرتبطة بالنقل، والإمداد، والتزود بالسلاح”، وأيضاً الجغرافية التي تجعل من الصعب الحصول على أسلحة وذخائر من الخارج بسبب طبيعة المنطقة.
فعندما لا يكون مصدر أسلحتها من غنائم الهجمات على مستودعات أسلحة الجيوش النظامية، فإنها غالباً ما تعتمد على مخزونات أسلحة قديمة يتم الحصول عليها من جهات غير مشروعة أخرى في المنطقة، لتخضع بعدها لعمليات إصلاح وإعادة تأهيل قبل استخدامها من جديد.
- مخزونات الأسلحة المتبقية من النزاعات السابقة
يستخدم المتشددون أيضاً أسلحة متبقية من النزاعات السابقة، مثل أزمة مالي عام 2012.
ويوضح الباحثون أن الأسلحة الحديثة القليلة التي بحوزتهم تم الحصول عليها بشكل رئيسي، إن لم يكن حصرياً، من خلال هجمات ضد قوات دول الساحل، لكنهم يؤكدون أنهم لم يعثروا على أدلة دامغة على إمدادات أسلحة مباشرة من خارج منطقة الساحل، ولا على وجود روابط منهجية مع جماعات أخرى ناشطة خارج هذه المنطقة.
ويدحض هذا وجود روابط إمداد مع “الحاضنات الأم” للجماعات المتطرفة مثل القاعدة، و”تنظيم داعش” وكذلك تنافي نظريات المؤامرة المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تفيد بأن المتشددين مُسلحون من قِبل قوى معادية، مثل فرنسا.
وفي الخلاصة يمكن القول إن الجماعات المتشددة تمثل تهديداً جدياً للنظام العسكري في مالي، الذي يُكافح من أجل استعادة الأمن والاستقرار في البلاد.
هل استنفذ النظام العسكري في مالي طاقته؟
ومن آخر ما نُشر نوفمبر الماضي، حول الوضع في مالي، وأكثره تشاؤماً بشأن مستقبله، تقرير عن صعوبة معالجة هذا الوضع، صدر عن المعهد الملكي للعلاقات الدولية – إجمونت، الواقع في بروكسل، بلجيكا، بعنوان: “هل استنفد النظام العسكري في مالي طاقته؟”.
وأوضح التقرير أنه بعد قرابة شهرين من الحصار الاقتصادي الذي فرضته جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” التابعة لتنظيم القاعدة، يواجه النظام العسكري المالي ضغوطاً لإيجاد حلول لوضع يزداد صعوبة، سواء على السكان أو قوات الأمن، أو على استقراره.
ووفق التقرير: “دُمرت مئات شاحنات الصهاريج القادمة من السنغال وكوت ديفوار وغينيا، مما جعل الطرق الرئيسية في البلاد شبه معطلة، تم قطع طرق الإمداد إلى العاصمة، ومع ذلك، لم ينجح النظام في مالي حتى الآن في إيجاد حل فعال، مكتفياً بإجراءات الإغاثة وإغلاق استثنائي للمدارس والجامعات لمدة أسبوعين”.
وخوفاً من تصاعد السخط الشعبي، حثّت الدول الغربية الرئيسة “الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وبريطانيا” مواطنيها على مغادرة العاصمة باماكو، في سلسلة من التصريحات صدرت نهاية أكتوبر الماضي، ما زاد الضغط على الحكومة المالية.
وطرح المعهد في تقريره التساؤلات التالية: “كيف وصل الوضع إلى هذا المستوى؟ وما هي الإجراءات التي يتبعها النظام المالي لمعالجته؟ وما السيناريوهات المحتملة على المديين القصير والمتوسط؟”
وبحسب المعهد، تلخص الأزمة الحالية في مالي “فشل المجلس العسكري في الوفاء بوعوده، واحتواء العنف، وهزيمة الجماعات المتشددة في نهاية المطاف”، في المقابل برزت القوة المتنامية لجماعة “نصرة الإسلام والمسلمين”، التي نجحت في فتح جبهة جديدة في الغرب، وفرض حصار اقتصادي متنوع، وممارسة ضغوط كبيرة على السلطات المالية.
وما يزال الوضع متقلباً للغاية ومفتوحاً على المجهول، ما يجعل أي توقع غير مُجدٍ، ومع ذلك، يُمكن القول حالياً إن كل السيناريوهات المُحتملة من المُرجح أن يُؤدي إلى فقدان النظام العسكري الحاكم في مالي لمزيد من الشرعية والسيطرة على الأوضاع في البلاد.
* المدير العام للمركز الدولي للدراسات والاستشارات الذكية- نواكشوط*
