عائض الأحمد

 

سَيِّدُ زمانِه لم يَعِ أنّ الدنيا تغيرت وتبدَّلت، ولم يُدرك أنّ الزمان لا يخضعُ لرغبةٍ، ولا يتوقّفُ عند راحةِ أحد.

الزمانُ كالماءِ: إنْ حاولتَ أن تُمسِكَه بيديك تسرَّب من بين الأصابع، وإنْ تجاهلتَ تدفُّقَه وجد طريقَه حولك… أو فوقك.

في صمته المتعالِي نسي أنّ الحياة لا تنتظر، وأنّ اللحظةَ التي يظنُّ أنّه يملكها تمضي عنه في الخفاء.

أصابَه غرورٌ، وعَظْمُه هشّ، فانحنى خجلًا من غير أن يدري.

لا يرى كيف صار الطفلُ يُفكِّر، والشيخُ يتأمّل، والمرأةُ تكتب تاريخها بيدها؛ لا يرى أنّ الأفقَ لم يعد يحدُّه سورُ قصرٍ، ولا يُختصر في نشرةٍ يوميّةٍ تُملَى على مَن حوله.

غاضبٌ، مستفَزّ، يدّعي الكمالَ في عالمٍ لا يعترفُ بغير التغيير.

إنّه في وَهْمِ السيطرة، يتجاهلُ أبسطَ سنن الكون: أنّ كلَّ شيءٍ يتغيّر، وأنّ مَن لا يتغيَّر يُهمَلُ، يُنسَى… وربما يُكسَر.

فالحياةُ ليست ثباتًا، بل عبورًا. وليست حُكمًا، بل حِكمةً. وليست عرشًا، بل موقفًا. وليس بالضرورة أن تكون سيدا لتقع في الخطأ نفسه؛ كم منّا يعيشُ أسيرَ فكرةٍ قديمة؟ أو يتمسّكُ بوجهٍ قد رحل؟ أو يصمُّ أذنيه عن نداء التغيير خوفًا من فقدان الأمان؟ أطلقَ تحدّيًا خذلتْه الأيامُ؛ لأنّه كسر قلبًا كان يُصَدِّقُه.

وربما في داخل كلٍّ منّا سيدا صغير، لا يريد أن يصدّق أنّ الأشياء لم تعد كما كانت، وأنّه آن الأوان ليخلع التاج، ويلبس قبّعةَ الفهم.

التأمّلُ الصادق يبدأ حين نسأل أنفسنا: هل أعيشُ الزمان… أم أُقاومه؟

أتحرّكُ مع الحياة… أم أُعارك ظلِّي؟

عندها فقط ننجو من مصير «سيد زمانِه»… الذي لم يَعِ.

كنتُ أطلبُ منه بُرهةً يُجالس فيها ضميرَه،

ليكفَّ عن تحقير مَن أحبَّه، وعن نسفِ سنواتٍ من الحبّ لم يرَ فيها إلّا نفسَه.

لكنَّه أبى؛ اصطفَّ بجانب مرآته وأوهامه، وحين بحثتُ عن ذاتي خارج دائرته صُعِق، شاحَ بوجهه، نعتني بالخائنة، وبَرَّأ نفسَه…

كأنّني أنا من قرَّر وفعل.

والحقُّ أنّ «سيِّدَ زمانِه» لم يكن يومًا سيِّدي؛ كان سجين تصوُّره عن السلطةِ والحبِّ والذات.

وأمّا أنا، فوجدتُ نفسي إذ فقدتُه، لأنِّي كنتُ أعيش في محيطه ظلًّا لا إنسانًا.

وحين اخترتُ النور، أحرقتْه الحقيقة؛ فليتَه يعودُ إليَّ… ليعودَ قلبي.

ولعلَّه يعلم: مَن لا يرى مَن يحبُّه، لن يبقى له سوى صدى الذكرى، وصمتُ الكرسيِّ الفارغ.

أتنفّسه صعودًا وهبوطًا، كأنّه الهواءُ الذي لا أملك منه فكاكًا.

أحلمُ بسكناته، وأفيقُ من قدري لأجده قيدًا في معصمي، حلمًا لا ينام، وجرحًا لا يلتئم.

أعودُ حبيسًا في حبّه…

أقفُ على حافة قلبي

ثم أنشدُ حريّتِي، أرجوه:

لا تفعل بي هذا!

لا تُشعلني شوقًا وتتركني رمادًا.

لا تفتح نافذتي للضوء، ثم تسحبَ السماء.

لها: شيئًا منكِ ما زال يسكنني: ضحكتكِ التي كانت تسبقكِ، وصوتكِ حين تُنادين اسمي وكأنّك تكتشفينه لأوّل مرّة.

ما زلتُ أراكِ في كل امرأة تُحبّ، وتُغفِر، وتنتظر. وما زلتُ أخاف أن يمرَّ العمرُ، دون أن أغفر لنفسي أني فقدتكِ… لأنّي لم أفهمكِ.

شيء من ذاته: كانت تظنّ أن الحبَّ امتلاك، والسلطةَ حُجّة، وأنّ الكبرياءَ درعٌ لا يُخترق.

لم تدرك أن الرجل حين يحبُّ، يعطي عمره، وأنّ كسرَ قلبه لا يُصلَحُ باعتذار متأخّر، ولا بندم متكبّر. هو الآن يعيش صمتًا لا يسمعه أحد، ويكتب لها رسائل لا يرسلها…

ربما لأنّه يعلم: أنّ خسارتها كانت المرة الوحيدة التي لم ينتصر فيها.

نقد: لن يُخلِفك في فؤادي أحد، ولن ينزل في مقامك بشر.

شاركها.