لمى قنوت
منذ الاحتلال الأمريكي للعراق، أدارت واشنطن رسم العملية السياسية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة في العراق على أساس الهوية الطائفية-الإثنية في جميع المسارات، عبر نظام محاصصة ظل راسخًا حتى يومنا هذا، بدءًا من تشكيل الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر لـ”مجلس الحكم الانتقالي” في آذار 2004، إلى تصميم “الجمعية الوطنية الانتقالية” في 8من نيسان 2005، كهيئة “تمثيل مكونات” محكومة مسبقًا بتوافق هوياتي، وبدورها، شكلت الجمعية “لجنة كتابة الدستور” التي كان التمثيل فيها قائمًا على الهوية أيضًا، وليس على أساس تنوع الشرائح المجتمعية لضمان تمثيل الجميع، كالأحزاب والنخب السياسية والحقوقية والأكاديمية والمجتمع المدني، وبضمنهم المنظمات النسوية، والنقابات، وغيرها من الشرائح والمكونات والمناطق الجغرافية ليعبر الدستور عن الجميع.
صدر الدستور العراقي في عام 2005، بتدخل أمريكي مباشر، وكانت الكثير من نصوصه، ولا تزال، مصدر أزمات في العراق، فمثلًا، تركت المادة “76” التي تنص على أن: “يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الكتلة النيابية الأكثر عددًا، بتشكيل مجلس الوزراء…” فراغًا في تعريف “الكتلة الأكبر”، والتي جرى تلاعب مستمر في تفسيرها، فمنذ بداية التأسيس تُرك التعريف مفتوحًا للتأويل والتوظيف السياسي، وفي عام 2010 فسرتها المحكمة الاتحادية العليا، بناء على طلب من رئيس مجلس الوزراء بعد الانتخابات البرلمانية في 7 من آذار 2011، بأنها “إما الكتلة التي تكونت بعد الانتخابات من خلال قائمة انتخابية واحدة، أو الكتلة التي تكونت بعد الانتخابات من قائمتين أو أكثر من القوائم الانتخابية، ودخلت مجلس النواب وأصبحت مقاعدها بعد دخولها المجلس، وحلف أعضاؤها اليمين الدستورية في الجلسة الأولى الأكثر عددًا من بقية الكتل…”، بمعنى أنها القائمة التي دخلت الانتخاب أو تحالفًا يُشكل داخل البرلمان بعد إعلان النتائج، وبذلك خسرت قائمة “العراقية” بزعامة إياد علاوي عبر تحالفات ما بعد الانتخابات رغم حصولها على أكبر عدد من المقاعد، وكان قرار المحكمة مسيسًا بسبب “الفيتو” الإيراني الذي وضعته على علاوي، وتمكن نوري المالكي من تشكيل الحكومة.
ومنذ ذاك التاريخ لم تعد نتيجة الاقتراع حاسمة، بل تحولت إلى عرف، ففي انتخابات عام 2014، تم تكليف حيدر العبادي بناء على توازنات سياسية، وفي انتخابات 2018، تم تكليف عادل عبد المهدي كمرشح توافقي بمباركة من النجف، وفي عام 2020، وبعد استقالة الأخير في عام 2019، غاب تطبيق الدستور وفق المادة “76” مع تكليف مصطفى الكاظمي، وساد العرف السياسي، واستمر الجدل حول “الكتلة الأكبر” لمدة عام كامل مع انتخابات عام 2021 وتشكيل حكومة السوداني في 2022، وبذلك أصبح عامل الزمن أداة من أدوات التلاعب والتفاوض.
ورغم أن الدستور لم ينص على المحاصصة، فإن النخب أَوّلت اعتراف الدستور بتنوع الشعب العراقي في ديباجته إلى نظام قائم على التوظيف السياسي وتقاسم التمثيل، كما أن الدستور لم ينص أيضًا على التقاسم الثلاثي للرئاسة (كرد) والبرلمان (سنة) ورئاسة مجلس الوزراء (شيعة)، لكنه أصبح عرفًا منذ عام 2005، الأمر الذي يعني عمليًا، بأن التنافس الانتخابي لا يقرر شاغلي المناصب العليا، بل هي موزعة بشكل ثابت بين بعض المكونات، ولا تعطي نتائج الانتخابات تفويضًا لأي كتلة لتشكيل الحكومة بمفردها، بل تعيد ترتيب الحصص داخل المكونات المهيمنة، ولا تستطيع الكتلة الفائزة بالاقتراع أن تختار مرشحها إذا اصطدمت بـ”فيتو” من كتلة قوية أخرى داخل “المكون” نفسه أو خارجه، بمعنى أن نتائج الانتخابات تعطي “وزنًا تفاوضيًا” لا تفويضًا لصياغة حكومة أغلبية سياسية.
تكثيفًا، وبعد مرور أكثر من عقدين على الاحتلال الأمريكي للعراق، وصعود فاعلين سياسيين طائفيين، وإدارة أمريكية تبنّت الهندسة الطائفية عبر المحاصصة، فقد رسخ هذا التأسيس أحزابًا تقاسمت المناصب والفساد، وكرست جل صراعاتها وتوافقاتها على تعظيم نفوذها ومكاسبها، واستشرى الفساد في كنفها دون القدرة أو الرغبة في مكافحته، وتغلبت المصالح الشخصية والحزبية على المصلحة العامة. لقد أنتجت الطبقة السياسية نظامًا سياسيًا جعل من النادر أن تحسم نتائج الانتخابات البرلمانية تشكيل الحكومة، وشكل ضياع الصوت الانتخابي للناخبين والناخبات انعدام ثقة بتلك الطبقة، وضعفًا في نسبة الاقتراع في الكثير من المراحل. وضمن أجواء المقايضات الطائفية والمساومات الريعية وسطوة السلطوية الدينية السياسية، فمن الطبيعي أن نجد البرلمان يصوت في 27 من آب الماضي على مدونة الأحوال الشخصية الجعفرية الجديدة، التي رسخت التمييز ضد النساء والفتيات وسلبتهن حق تقرير مصيرهن، وجردتهن من كرامتهن، ووكالتهن على حيواتهن وأجسادهن، رغم النضال الذي خاضته العراقيات والمجتمع المدني ضد هذا التعديل.
وفضلًا عن ذلك، برزت هشاشة المؤسسات، وارتباك القرار السياسي بين الرضوخ للإملاءات الأمريكية والهيمنة الإيرانية، فمثلًا، بعد إعلان البنك المركزي العراقي إدراج “حزب الله” و”الحوثيين” ضمن قائمة الجماعات الإرهابية، ونشره في جريدة “الوقائع” الرسمية منتصف تشرين الثاني الماضي، تراجعت الحكومة عن القرار بسبب الجدل الواسع، واعتبرته خطأ، وأنه حدث سهوًا، معللة بأن القائمة التي أرسلت للجريدة غير منقحة، وطالب المكتب الإعلامي لرئيس مجلس الوزراء بإجراء تحقيق ومحاسبة المقصرين عن الخطأ.
وبطبيعة الحال، لا يستوي السرد دون التطرق لكلتا الانتفاضتين اللتين تحدى فيهما الشباب والشابات العراقيات سلميًا بنى الطوائف السياسية الفاسدة، والفساد المستشري وسيطرة الميليشيات الطائفية في كل مفاصل الحياة اليومية، وطالبوا بتغيير جذري سياسي واجتماعي، في كل من عام 2015 و2019، وردد الآلاف في الحراك الأول “باسم الدين باكونا الحرامية” (سرقونا اللصوص)، وفي الحراك الثاني أعادوا ترديد “الشعب يريد إسقاط النظام”، وجاء الرد السلطوي وميليشياتهم عنيفًا على مطالبهم بالتغيير الجذري السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
مرتبط
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
المصدر: عنب بلدي
