أنيسة الهوتية
في كل بيت هناك طفل عنيد جدًا، يُعاقَب كثيرًا ويُكسَر أمام غيره حتى يتأدب! وهذا خطأ، لأن العناد لا يجب أن يُكسر، وإنما يُقنَّن ويصقل قبل تشكّل الملامح الحادة. وليس كل الأطفال متشابهين، هناك طفلٌ هادئ متأمل، وآخر اجتماعيّ مؤنس، وثالث عنيد وانفعالي. وكثيرًا ما يُساء من المجتمع والأهل فهم هذه الاختلافات، فيُنظر إلى العناد وكأنَّه عيب وقلة تهذيب ينبغي كسره.
غير أنَّ السُنن الإلهية تقول لنا شيئًا آخر: الطباع ليست أخطاءً، بل استعدادات، وليست نقائص؛ بل مواد خام تنتظر الصقل.
وحين نتأمل سير الأنبياء، نجد أن الله لم يبعثهم بنمطٍ واحد، ولا بطباعٍ متشابهة؛ بل هيّأ كل نبي بطبعٍ يناسب رسالته، ويخدم المقام الذي أُرسل إليه. فإبراهيم عليه السلام كان حليمًا، طويل النفس، يناقش أباه وقومه بهدوء، لأن رسالته كانت كسر الأصنام بالحجة قبل الفعل. وعيسى بن مريم عليه السلام كان رقيقًا، ليّن الخطاب، لأنَّ قومه كانوا قساة القلوب، فاحتاجوا إلى من يداويهم بالرحمة. ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم جمع بين الحلم والحزم، لأنه خاتم الرسل، أُرسل للعالمين، فكان لكل مقامٍ عنده ميزانه.
أما موسى عليه السلام فقد كان نبيًّا مختلف الطبع، شديد الغيرة، قوي الإرادة، سريع الحركة، لأنَّ مهمته لم تكن سهلة: مواجهة فرعون المُتألِّه، وقيادة قومٍ عُرفوا بكثرة الجدل والتمرد. ولو بُعث موسى بطبعٍ ليّنٍ محض، لما صمد أمام طغيان فرعون، ولا احتمل ثِقل بني إسرائيل.
في قصة موسى مع بنات شعيب عند بئر مدين، تتجلى هذه القوة في أجمل صورها. موسى الغريب، الهارب، الجائع، لا يتكلم كثيرًا، بل يفعل. يرى امرأتين تذودان، فيتقدم ويسقي لهما وحده. لم يكن فعله استعراض قوة، بل استجابة فطرية للحق. قوته هنا لم تكن طيشًا، بل نجدةً صامتة، ولهذا جاءت الشهادة الخالدة: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ﴾ (القصص: 26)؛ فالقوة حين تُصقل بالأمانة تصبح رحمة.
وفي رحلته مع الخضر عليه السلام يظهر طبع موسى بوضوح أكبر. موسى نبي شريعة، لا يحتمل الظلم الظاهر، ولا يسكت عن المنكر المرئي. فحين خُرقت السفينة، وقُتل الغلام، وأُقيم الجدار بغير أجر، اعترض. لم يكن اعتراضه قلة صبرٍ مذمومة، بل وفاءً لوظيفته النبوية. ولهذا قال الخضر: ﴿إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ (الكهف: 75)، لا ذمًّا له؛ بل بيانًا لاختلاف المقام.
ويشتد هذا الطبع حين يعود موسى إلى قومه فيجدهم قد عبدوا العجل. يغضب، ويأخذ برأس أخيه هارون، لا لأنَّ هارون عدو، بل لأن التوحيد قد انتُهك. وحين يسمع العذر، يهدأ فورًا، ويستغفر. هذه ليست ثورة طيش؛ بل غِيرة منضبطة، تعرف متى تثور، ومتى تسكن.
حتى في لقائه مع ملك الموت، تظهر إنسانيته المتزنة. دافع عن نفسه حين ظنَّ اعتداءً، فلما تبيّن الأمر، سلّم ورضي. لم يكن متمردًا على القدر؛ بل بشرًا لا يعلم الغيب، ونبيًّا سريع الرجوع إلى الحق.
إنَّ موسى عليه السلام يُعلّمنا درسًا تربويًا عميقًا: أن الطباع القوية ليست خطرًا في ذاتها، وإنما الخطر في إهمال صقلها. فالعناد، إذا كُسر، تحوّل إلى ضعف، وإذا هُذّب، صار ثباتًا. والغضب، إذا أُطلق، صار فوضى، وإذا ضُبط، صار غيرة على الحق.
ولهذا، فإنَّ الأطفال العنيدون، الأقوياء الإرادة، السريعون في ردود أفعالهم، لا يحتاجون إلى الكسر، بل إلى الفهم. إنهم غالبًا مهيؤون لحياةٍ ستطلب منهم المواجهة، لا الانسحاب، والوقوف، لا الانكسار. وما أحوجهم إلى مربٍ لا يطفئ فيهم النار، بل يحوّلها نورًا.
ليس المطلوب أن نصنع أطفالًا متشابهين؛ بل أن نُحسن قراءة ما أودعه الله فيهم، وأن نصقل طباعهم، كما صُقلت طباع الأنبياء، ليكونوا على قدر الأقدار التي تنتظرهم.
