د. سمير صالحة أساس ميديا
ما يجري بين تركيا وإسرائيل ليس أزمة تبحث عن حلّ، بل علاقة تُعاد صياغتها على إيقاع صراعات النفوذ، وتُدار بميزان المصالح المصحوبة بمنطِقَين سياسيّ وأمنيّ جديدين لا يستبعدان القطيعة أو المواجهة العسكريّة المباشرة. المرجّح هو صراع نفوذ طويل الأمد، اشتباك سياسيّ وإعلاميّ واقتصاديّ تحت السيطرة في ساحات ثالثة بدل المواجهة المباشرة، وتدخّل أميركيّ عند اقتراب أيّ طرف من الخطوط الحمر.
هو موضوع تراكم صراعات مؤجّلة بين طرفين إقليميَّين انتقلا خلال السنوات الأخيرة من مرحلة إدارة الخلاف إلى ساحة اختبار النفوذ وتفعيل التحدّيات وبناء الاصطفافات. لكن لماذا هذا التصعيد الآن؟ ومن يساهم في تأجيجه أو تهدئته؟ وأين سيتوقّف؟
تحكم التصعيد الراهن بين إسرائيل وتركيا ثلاثة عوامل متزامنة، تتقدّمها تحوّلات البيئة الإقليميّة بعد انهيار قواعد الاشتباك التقليديّة في أكثر من ساحة، ثمّ توسّع أدوار الطرفين خارج حدودهما المباشرة الأمنيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، ثمّ استخدام التصعيد أداةً للتحكّم بمسار التوتّر، حيث يحصل شدّ الحبل دون تركه ينقطع وتفعيل الضغوطات دون الوصول إلى انفجار مباشر.
توتّر تحت سقف المواجهة؟
لا يُعتبر التصعيد الحاليّ وليد لحظة انفعاليّة ة بحرب غزّة أو الملفّ السوريّ أو التوازنات المعقّدة في شرق المتوسّط، بل هو نتيجة سياسات ومصالح متباعدة ومتضاربة في أكثر من مكان تصل إلى الدوائر الجغرافيّة المتاخمة في البلقان والقوقاز والقارّة السمراء والشرق الأوسط وحوض البحر الأحمر.
لكن على الرغم من هذا التوتّر، هناك ما يمنع المواجهة، إذ يدرك الطرفان تكلفة أيّ معركة عسكريّة مباشرة، خاصّة على الصعيدين الاقتصاديّ والأمنيّ، ولذلك يظلّ الضغط الأميركيّ والدوليّ قائماً للحدّ من التوسّع في النزاع، ويوفّر استمرار قنوات التواصل الاستخباريّ، ولو بشكل محدود، هامشاً لإدارة الأزمة دون انفجار كامل.
تُعدّ الساحة السوريّة المكان الأخطر في مسار التصعيد لأنّها المجال الأهمّ الذي تتقاطع فيه المصالح الأمنيّة والعسكريّة للطرفين، مع تضييق هوامش المناورة السياسيّة. لا يجعل هذا التداخل المواجهة حتميّة، لكنّه يرفع منسوب المخاطر، خصوصاً مع عدم وضوح قواعد الاشتباك واحتمال وقوع أخطاء حسابيّة قد تتحوّل بسرعة إلى أزمات أكبر.
في سوريا، تسعى تركيا إلى تثبيت نفوذ طويل الأمد أبعد من حساباتها السابقة في الشمال السوريّ، بينما تركّز إسرائيل على توسيع رقعة تمدّدها الجغرافيّ، تحضير بعيد المدى للعب ورقة الأقليّات والتمسّك بفرص ضرب الوجود الإيرانيّ و”الحزب”. يجعل هذا التناقض في الأولويّات الساحة السوريّة منطقة احتكاك مباشر يُحتمل أن تتحوّل إلى مساحة تصادم فعليّ، إذا لم تُحسب المخاطر بجدّيّة، مع اعتبار الدور الأميركيّ والروسيّ في ضبط قواعد الاشتباك جزءاً أساسيّاً من أيّ توازن محتمل.
يبدو ملفّ شرق المتوسّط أقلّ ضجيجاً مقارنة بغزّة أو سوريا، لكنّه يحتفظ بأهميّة استراتيجيّة كبيرة في مسار التأزّم التركيّ الإسرائيليّ. فالصراع هنا لا يتعلّق بالطاقة فقط، بل بإعادة رسم خرائط النفوذ والتحالفات الإقليميّة، وتحديد من يملك حقّ المشاركة في رسم الخرائط البحريّة واستغلال الموارد.
محاولات إقصاء تركيا عن بعض مشاريع الغاز وتنامي الشراكات الإسرائيليّة مع اليونان وقبرص اليونانيّة عمّق فجوة الثقة وجعل من هذا الملفّ ورقة ضغط قابلة للاستخدام عند انسداد المسارات الأخرى. لا يدفع هذا التباعد نحو مواجهة فوريّة، لكنّه يُبقي المشهد مفتوحاً على احتمالات التصعيد السياسيّ وربّما الأمنيّ عند تغيّر موازين القوى.
خلافات بنيويّة؟
من ناحيتها تنظر الولايات المتّحدة إلى التصعيد التركيّ الإسرائيليّ بوصفه أزمة يجب حلّها، انطلاقاً من كون الطرفين حليفين أساسيَّين في حساباتها الإقليميّة، ومع ذلك يقتصر الدور الأميركيّ على التهدئة خلف الكواليس، ضبط الخطاب ومنع الانزلاق إلى مواجهة مباشرة دون التوغّل في معالجة جذور الخلاف، وهو ما يترك الأزمة مفتوحة على احتمالات صعبة عند كلّ منعطف جديد. فيما يكمن الخطر الحقيقيّ في تراجع قدرة واشنطن على لعب دور الكابح الفاعل.
في المحصّلة، من الواضح أنّ كلا الطرفين لا يسعى حاليّاً إلى تسوية سريعة ما لم تُعالج أسباب الخلاف الجوهريّ والتباعد الاستراتيجيّ بينهما. قد لا تتّجه الأمور نحو انفجار مباشر، فالمسار ما يزال قابلاً للإدارة تحت قيود الاحتواء المتاحة. لكنّ ملفّات الخلاف باتت بنيويّة تتجاوز الأشخاص والظروف، وترتبط بإعادة توزيع النفوذ الإقليميّ، مع عدم رغبة البلدين في تقليص طموحاتهما الاستراتيجيّة.
الأخطر في مسار التصعيد أنّه لم يعد محصوراً بساحة واحدة، ولا مضبوطاً بقواعد اشتباك واضحة. لم تعُد المواجهة مسألة اصطفاف إقليميّ بصراع نفوذ وتمدّد، بل تحوّلت إلى حرب مواقع وحفر وخنادق تشمل أكثر من مكان.
لم يعُد التصعيد التركيّ الإسرائيليّ خلافاً سياسيّاً أو صراعاً أيديولوجيّاً سريع المعالجة، بل هو صدام مصالح ونفوذ تغذّيه الطموحات الإقليميّة وتحدّده الجغرافيا والحسابات الاستراتيجيّة. وفي ظلّ هشاشة أدوات الضبط، يبقى هذا المسار مفتوحاً على احتمالات غير محسوبة.
