حدد باحثون من “جامعة روكفلر” جيناً يلعب دوراً محورياً في تنظيم الانتباه عبر تهدئة النشاط العصبي الزائد في الدماغ، في اكتشاف قد يغيّر الطريقة التي يفهم بها العلماء اضطرابات الانتباه مثل اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه.

وأظهرت الدراسة المنشورة في دورية Nature Neuroscience أن جيناً يُعرف باسم Homer1 يؤثر على القدرة على التركيز من خلال تقليل “الضوضاء العصبية” في القشرة الجبهية الأمامية، وهي المنطقة المسؤولة عن الانتباه واتخاذ القرار.

وأُجري البحث على الفئران، لكنه يستند إلى آليات جزيئية لها صلة مباشرة بالإنسان، ما يمنحه أهمية خاصة في مجال الاضطرابات العصبية والنمائية.

يعتمد الانتباه السليم على قدرة الدماغ على التمييز بين المعلومات المهمة والمشتتات المحيطة، فالعقل يتعرض باستمرار لسيل من الإشارات الحسية، ويحتاج إلى تصفية هذا الكم الهائل من البيانات لاستخلاص ما يستحق التركيز.

انهيار النظام

في اضطرابات الانتباه، ينهار هذا النظام بسبب ارتفاع “الضوضاء” في الخلفية العصبية، ما يجعل التمييز بين المهم وغير المهم أكثر صعوبة.

تعتمد الأدوية المنبهة المستخدمة في علاج اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه على زيادة النشاط العصبي في دوائر الانتباه، خصوصاً في القشرة الجبهية الأمامية. غير أن الدراسة الجديدة اقترحت مساراً مغايراً يتمثل في تحسين الانتباه عبر خفض النشاط الخلفي غير الضروري بدلاً من رفع النشاط العام.

لم يكن جين Homer1 مرشحاً واضحاً لدور مباشر في الانتباه، فرغم كونه معروفاً بين علماء الأعصاب بوصفه عنصراً مهماً في النقل العصبي، ورغم ارتباط العديد من البروتينات المتفاعلة معه بدراسات وراثية سابقة عن اضطرابات الانتباه، لم تكن هناك أدلة تشير إلى أن Homer1 نفسه يتحكم في هذه الوظيفة السلوكية.

وقالت المؤلفة الرئيسية للدراسة، بريا راجاسيثوباثي، رئيسة مختبر ديناميكيات الإدراك العصبي في جامعة روكفلر الأميركية، إن الفريق البحثي لم يكن يتوقع أن يقودهم البحث إلى هذا الجين تحديداً.

وأضافت أن النتائج كشفت عن تأثير لافت وغير متوقع لهذا الجين على الانتباه، مع صلة واضحة بالبشر.

ما هو اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط؟

  • اضطراب في الصحة العقلية يتمثل في صعوبة التركيز وفرط الحركة والاندفاع، ويؤثر بشكل مباشر على الحياة اليومية.
  • يبدأ الاضطراب في مرحلة الطفولة المبكرة، لكنه قد يستمر إلى البلوغ دون تشخيص واضح، خاصة إذا كانت الأعراض أقل وضوحاً في مرحلة الطفولة.
  • قد يقل فرط الحركة لدى البالغين، بينما تستمر مشكلات التشتت والاندفاع، وعدم الاستقرار العاطفي.
  • يؤثر الاضطراب على العمل والدراسة والعلاقات الاجتماعية، وقد يؤدي إلى ضعف الأداء وتراجع الثقة بالنفس.
  • من أبرز الأعراض: ضعف تنظيم الوقت، وصعوبة ترتيب الأولويات، والنسيان المتكرر، والتململ، وتقلبات المزاج.
  • كثير من البالغين لا يدركون إصابتهم بالاضطراب، لكنهم يشعرون بأن المهام اليومية تُمثّل عبئاً مستمراً وصعباً.
  • علاج الاضطراب يشمل الأدوية، والعلاج النفسي، ومعالجة أي اضطرابات نفسية مصاحبة مثل القلق أو الاكتئاب.
  • تشخيص الاضطراب لدى البالغين قد يكون صعباً بسبب تشابه أعراضه مع اضطرابات نفسية أخرى.
  • تلعب العوامل الوراثية والبيئية ومشكلات النمو العصبي المبكر دوراً في زيادة خطر الإصابة بالاضطراب.
  • في حال عدم العلاج، قد يرتبط الاضطراب بنتائج سلبية مثل البطالة، والمشكلات القانونية، والإدمان، والحوادث، وضعف الصحة النفسية والجسدية.

للوصول إلى هذا الاكتشاف، أجرى الباحثون مسحاً جينياً واسع النطاق شمل نحو 200 فأر، جرى تهجينها من ثماني سلالات مختلفة، بعضها ذو أصول برية، بهدف محاكاة التنوع الجيني الموجود لدى البشر.

هذا المستوى من التنوع الجيني نادر في دراسات السلوك العصبي، لكنه كان ضرورياً لرصد تأثيرات وراثية قد تضيع في نماذج أكثر تجانساً.

ووصفت الباحثة راجاسيثوباثي هذا العمل بأنه “جهد شاق وغير مسبوق تقريباً في هذا المجال”، فمن خلال تحليل الصفات الكمية المرتبطة بالسلوك، حدد الفريق موضعاً جينياً يفسر قرابة 20% من التباين في الأداء الانتباهي بين الفئران، وهي نسبة تُعد كبيرة للغاية في علم الوراثة السلوكية.

داخل هذا الموضع، برز جين Homer1 بوضوح، وأظهرت البيانات أن الفئران الأعلى أداء في اختبارات الانتباه كانت تمتلك مستويات أقل بكثير من Homer1 في القشرة الجبهية الأمامية، وهي مركز التحكم في الانتباه.

سمة سلوكية

أوضحت راجاسيثوباثي أن العثور على جين يؤثر في 1% فقط من سمة سلوكية يُعد إنجازاً بحد ذاته، أما الوصول إلى نسبة تقترب من 20%، حتى مع احتمال المبالغة الإحصائية، فهو أمر استثنائي. وعند التعمق أكثر، تبيّن أن التأثير لا يعود إلى الجين بالكامل، بل إلى نسختين محددتين منه هما Homer1a وAnia3.

وذكرت الدراسة أن الفئران التي أظهرت أداء أفضل في مهام الانتباه كانت تمتلك مستويات أقل من هاتين النسختين تحديداً، دون تغيّر يُذكر في النسخ الأخرى من الجين.

وعندما خفَّض الباحثون مستويات Homer1a وAnia3 تجريبياً لدى فئران في مرحلة المراهقة، وخلال نافذة نمو عصبي محددة، تحسَّن الأداء الانتباهي بشكل ملحوظ وأصبحت الفئران أسرع في الاستجابة، وأكثر دقة، وأقل قابلية للتشتت عبر عدة اختبارات سلوكية مختلفة.

في المقابل، لم يُحدث التدخل نفسه أي تأثير عند تطبيقه على فئران بالغة، ما يشير إلى أن تأثير Homer1 على الانتباه مرتبط بفترة تطورية حرجة، تغلق بعدها إمكانية التعديل.

وتفاجأ الباحثون من الآلية العصبية الكامنة خلف التأثير السلوكي، فخفض مستويات Homer1 في خلايا القشرة الجبهية الأمامية أدى إلى زيادة تعبير مستقبلات GABA، وهي المستقبلات المسؤولة عن التثبيط العصبي، وتُعرف بأنها “مكابح” الجهاز العصبي.

وقال الباحثون إن هذا التغيير خلق حالة من الهدوء العصبي الأساسي، مع استجابات أكثر تركيزاً عند ظهور إشارات مهمة، فبدلاً من إطلاق نشاط عشوائي ومستمر، أصبحت الخلايا العصبية تحتفظ بنشاطها للحظات ذات صلة، ما سمح باستجابات أدق وأكثر ملاءمة للمثيرات.

وأشارت الباحثة راجاسيثوباثي إلى أن الفريق كان يتوقع العكس تماماً، أي زيادة النشاط العصبي لدى الفئران الأكثر انتباهاً، موضحة أن “النتيجة أصبحت منطقية لاحقاً، فالانتباه، جزئياً، هو القدرة على حجب كل شيء ما عدا الأمر المهم”.

الإشارات الاستثارية

بالنسبة للباحث المشارك في الدراسة زاكاري جيرشون، لم تكن النتائج مفاجئة، فهو يعيش مع اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه، مشيراً إلى أن تجربته الشخصية كانت أحد دوافعه لتطبيق الخرائط الجينية على دراسة الانتباه.

وكان جيرشون، أول من لاحظ في المختبر أن خفض Homer1 يحسّن التركيز عبر تقليل التشتت، ويرى أن ذلك يتماشى مع تجارب شائعة مثل التأمل والتنفس العميق، حيث يُبلغ كثيرون عن تحسن التركيز بعد تهدئة الجهاز العصبي.

وأشارت النتائج إلى إمكانية تطوير فئة جديدة من علاجات اضطرابات الانتباه، تختلف جذرياً عن الأدوية المنبهة الحالية، فبدلاً من تعزيز الإشارات الاستثارية في القشرة الجبهية، قد يكون من الممكن تحسين الانتباه عبر ضبط نسبة الإشارة إلى الضوضاء من خلال التهدئة العصبية.

واكتسبت هذه الفكرة أهمية إضافية لأن دراسات سابقة ربطت Homer1 وبروتيناته المتفاعلة باضطرابات أخرى مثل التوحد والفصام، وهي حالات تترافق غالباً مع اضطرابات حسية مبكرة.

ونبّهت راجاسيثوباثي إلى وجود موقع في الجين يمكن استهدافه دوائياً، ما يفتح الباب أمام تطوير علاجات دقيقة تضبط مستويات الجين بدلاً من تعطيله بالكامل، لافتة إلى أن هذا المسار قد يسمح بابتكار دواء يحدث تأثيراً مشابهاً للتأمل أو اليقظة الذهنية، ولكن على المستوى الجزيئي.

يعتزم فريق جامعة روكفلر مواصلة دراسة الأسس الجينية للانتباه، بهدف تطوير علاجات تستهدف الآليات الدقيقة المنظمة لنشاط الدماغ، بدلاً من الاعتماد على التحفيز العام، وفي حال ترجمة هذه النتائج بنجاح إلى البشر، فقد تمثّل تحولاً في فهم اضطرابات الانتباه، ليس بوصفها نقصاً في النشاط العصبي، ولكن اختلالاً في توازنه، حيث يكون الهدوء أحياناً هو مفتاح التركيز.

شاركها.