كشف باحثون في “جامعة بولونيا” الإيطالية عن سبب محتمل يجعل بعض الأشخاص يستمرون في اتخاذ قرارات سيئة رغم التجربة والتعلم.
وأظهرت الدراسة أن الاعتماد على المؤشرات البصرية والسمعية المحيطة يمكن أن يؤدي إلى صعوبات في تعديل المعتقدات عند تغيّر هذه الإشارات لتدل على نتائج أكثر خطورة، ما يسهم في تكوّن أنماط سلوكية ضارة على المدى الطويل.
وركزت الدراسة المنشورة في دورية JNeurosci على التعلم الترابطي وصعوبة اتخاذ القرارات الملائمة لدى البشر، خاصة لدى من يعانون من اضطرابات قهرية، وإدمانات، وقلق، وقدمت رؤى جديدة بشأن كيفية تأثير البيئة المحيطة على اختيارات الأفراد.
التعلم الترابطي عملية نفسية وعصبية يقوم من خلالها الفرد بربط مؤشرات أو إشارات معينة بنتائج محددة، بحيث يصبح تكرار هذه المؤشرات مرتبطاً بتوقع النتائج المستقبلية.
يحدث هذا النوع من التعلم عندما يتعرض الشخص لمواقف متكررة يلاحظ فيها أن أحداثاً معينة، مثل صور أو أصوات أو علامات بيئية، تؤدي إلى نتائج محددة سواء كانت إيجابية أو سلبية، فيكوّن دماغه روابط بين المؤشر والنتيجة.
تعزيز التعلم
وتساعد هذه الروابط في توجيه السلوك واتخاذ القرارات بسرعة، لكنها قد تصبح ضارة إذا لم يتم تحديثها عند تغير الظروف، ما يؤدي إلى اعتماد ثابت على مؤشرات قديمة أو غير مناسبة وتكرار الأخطاء في اتخاذ القرار.
في حياتنا اليومية، نتعرض لمئات المؤشرات من حولنا سواء كانت صوراً، أو أصواتاً، أو إشارات مرئية وصوتية أخرى، ونميل إلى استخدامها لتوجيه قراراتنا، من اختيار الطعام أو الطريق إلى العمل إلى قرارات مالية أو اجتماعية أكثر تعقيداً.
ولدى معظم الناس، تساهم هذه المؤشرات في تعزيز التعلم من التجارب السابقة، بحيث يمكن تعديل السلوك بسرعة عندما تتغير الظروف.
لكن الدراسة أشارت إلى أن بعض الأفراد يعتمدون بشكل أكبر على هذه المؤشرات، ويواجهون صعوبة في تحديث توقعاتهم عندما تتغير دلالاتها، مثلما يحدث عندما تتحول إشارات معينة لتدل على نتائج محفوفة بالمخاطر.
وقال الباحثون إن هذا الاعتماد المفرط على المؤشرات البيئية يجعلهم عرضة للانحيازات والتفضيلات الثابتة، ويزيد من احتمالية اتخاذ قرارات ضارة أو غير فعالة بشكل متكرر.
جذور عميقة
والاعتماد على المؤشرات الخارجية في اتخاذ القرار له جذور عميقة في الدماغ البشري، إذ يعتمد التعلم الترابطي على ربط مؤشرات معينة بنتائج محددة، ما يسمح للفرد بالتنبؤ بالعواقب بناء على التجربة السابقة.
لكن عندما تكون القدرة على تعديل هذه الروابط ضعيفة، فإن الشخص يصبح أسيراً لهذه التوقعات القديمة، حتى وإن كانت غير مناسبة للظروف الحالية.
وأظهرت التجارب أن هذه الظاهرة أكثر وضوحاً لدى من يعانون من اضطرابات مثل القلق أو السلوك القهري أو الإدمان، إذ يتزايد الميل إلى تعزيز الأنماط السلوكية الضارة نتيجة للتفاعلات المعقدة بين المؤشرات المحيطة والمعتقدات الداخلية للفرد.
واستخدم الباحثون أساليب علمية دقيقة لدراسة هذا السلوك، بما في ذلك اختبارات التعلم الترابطي ليجدوا أن بعض المشاركين كانوا أكثر حساسية لهذه المؤشرات، ما جعلهم يعتمدون عليها بشكل أكبر في اتخاذ القرار.
وعندما تم تعديل دلالات هذه المؤشرات لتشير إلى مخاطر أكبر، لاحظ الفريق أن هؤلاء الأفراد كانوا أقل قدرة على تعديل سلوكهم أو إعادة تقييم توقعاتهم، مما أدى إلى قرارات أقل فاعلية بالمقارنة مع أشخاص آخرين لديهم قدرة أفضل على تحديث معتقداتهم.
وأكدت النتائج أن الفروق الفردية في الحساسية للمؤشرات ومرونة التعلم الترابطي قد تفسر جزئياً لماذا يكرر بعض الأشخاص الأخطاء نفسها رغم التعلم والخبرة.
آفاق جديدة
وأشار الباحثون إلى أن أهمية هذه الدراسة تكمن في أن التعرف على الأفراد ذوي الحساسية العالية للمؤشرات الخارجية يمكن أن يساعد في توجيه التدخلات العلاجية؛ فمعرفة أن بعض الأشخاص أكثر عُرضة لتكوين ارتباطات ثابتة بين المؤشرات ونتائجها الضارة قد يتيح تطوير استراتيجيات لإعادة تدريب الدماغ على تعديل هذه الروابط، سواء عبر العلاج السلوكي المعرفي أو تدخلات تربوية تهدف إلى تعزيز مرونة اتخاذ القرار.
ويحمل هذا التعديل أملاً خاصاً للأشخاص المصابين بالإدمان أو الاضطرابات القهرية، إذ يمكن أن يقلل من السلوكيات المتكررة الضارة ويعزز اتخاذ قرارات أكثر ملاءمة.
كما أكد الباحثون أن النتائج تفتح آفاقاً لدراسة كيفية تأثير البيئة المحيطة على السلوك البشري بشكل أوسع، خاصة في السياقات الحديثة التي يكثر فيها التعرض للمؤشرات الرقمية والبصرية، مثل منصات التواصل الاجتماعي والإعلانات الرقمية.
ففي هذه البيئات، يمكن للصور والأصوات المحفزة أن تعزز أنماطاً سلوكية معينة، وفي الأشخاص ذوي الحساسية العالية لهذه المؤشرات، قد يؤدي ذلك إلى قرارات متسرعة أو مفرطة المخاطرة.
وبالتالي، قد يكون تطوير فهم أعمق لكيفية معالجة الدماغ لهذه المؤشرات خطوة مهمة نحو تصميم بيئات تعليمية وصحية وسلوكية أفضل تساعد على تعزيز اتخاذ قرارات عقلانية.
كما سلطت الدراسة الضوء على التفاعل المعقد بين التعلم الترابطي والحساسية للمؤشرات والقدرة على تعديل المعتقدات، وتلعب تلك العوامل مجتمعة دوراً مهماً في تشكيل الأنماط السلوكية.
كما أن فهم هذه العلاقة يمكن أن يفسر جزءاً من السلوكيات المستمرة الضارة التي نراها في الحياة اليومية، سواء كانت مالية، أو اجتماعية، أو مرتبطة بالصحة.
ويخطط الباحثون لمواصلة دراساتهم على مجموعات مرضى أكبر لاستكشاف كيف يمكن لهذه الفروق الفردية في التعلم الترابطي والحساسية للمؤشرات أن تفسر الميل إلى اتخاذ قرارات خاطئة متكررة، وكيف يمكن تطوير تدخلات علاجية أو وقائية تستهدف هذه الفروق الفردية.
