كشفت دراسة منشورة في دورية Nature Ecology and Evolution، وأعدها باحثون من مركز التنظيم الجينومي، عن خريطة غير مسبوقة تشرح كيف تنشأ الأنواع المختلفة من الخلايا في شقائق النعمان البحرية والتي تُعد أحد أقدم الحيوانات المعروفة على الأرض.
وقدمت الدراسة، التي أنجزت على مستوى الخلية الواحدة، دليلاً قوياً على أن تطور تنوع الخلايا في الحيوانات لا يعتمد فقط على الجينات نفسها، بل بالدرجة الأولى على كيفية تنظيم قراءتها والتحكم في تشغيلها وإيقافها عبر ما يُعرف بالحمض النووي التنظيمي.
وتُعد مسألة كيف يمكن لجسم حيواني واحد أن يبني عشرات أو مئات الأنواع المختلفة من الخلايا، رغم أن جميع هذه الخلايا تحمل الجينوم نفسه، من أعمق الأسئلة في علم الأحياء، فالخلية العصبية تختلف جذرياً في الشكل والسلوك والوظيفة عن الخلية العضلية، رغم أن الحمض النووي في كل منهما متطابق.
والتفسير السائد بين العلماء هو أن الخلايا تختلف ليس في الجينات التي تمتلكها، بل في الجينات التي تسمح لنفسها بقراءتها واستخدامها، وتتحكم في هذه “الأذونات” الجزيئية عناصر تنظيمية، وهي مناطق من الجينوم تعمل كمفاتيح تشغيل وإيقاف للجينات. ومع ذلك، فإن الفهم التفصيلي لكيفية عمل هذه العناصر ظل حتى وقت قريب محصوراً في عدد محدود من الكائنات النموذجية مثل الفئران وذباب الفاكهة.
أطلس شامل
لكن الدراسة الجديدة وسّعت هذا الأفق جذرياً، إذ تقدم أول أطلس شامل يربط بين الهوية الخلوية والعناصر التنظيمية في كائن ينتمي إلى شعبة اللاسعات، وهي مجموعة حيوانية تضم شقائق النعمان وقناديل البحر والشعاب المرجانية، وتُعد من أقدم الفروع في شجرة تطور الحيوانات، إذ ظهرت لأول مرة قبل نحو نصف مليار عام.
وذكرت الدراسة أن اختيار نوع من أنواع شقائق النعمان ليس مصادفة، فهذا الكائن الصغير، الذي لا يتجاوز طوله بضعة مليمترات، يُعد نموذجاً مهماً لدراسة أصول الخلايا العصبية والعضلية، إضافة إلى امتلاكه نوعاً فريداً من الخلايا يُعرف بالخلايا اللاسعة، المسؤولة عن اللدغ والدفاع وصيد الفرائس.
واعتمد الباحثون في عملهم على تحليل نحو 60 ألف خلية منفردة من جسم شقائق النعمان، جمعت من مرحلتين مختلفتين من دورة حياتها.
وشملت العينات قرابة 52 ألف خلية من حيوانات بالغة كاملة، إضافة إلى نحو 7 آلاف خلية من أجنّة في مرحلة المعيدة، وهي مرحلة مبكرة من التطور الجنيني تتشكل فيها الطبقات الجنينية الأساسية التي ستعطي لاحقاً مختلف الأنسجة والأعضاء.
ومن خلال تلك البيانات، أنشأ الفريق فهرساً تفصيلياً يضم 112 ألفاً و728 عنصراً تنظيمياً في جينوم هذا الكائن.
وتُعد هذه الأرقام لافتة للنظر إذا ما قورنت بحجم جينوم ذلك الكائن، الذي يبلغ نحو 269 مليون زوج قاعدي من الحمض النووي. فهذا العدد من العناصر التنظيمية يفوق بكثير التقديرات السابقة، ويقترب من عدد العناصر التنظيمية المعروفة في ذبابة الفاكهة، التي يبلغ حجم جينومها نحو 180 مليون زوج قاعدي، وتنتمي إلى سلالة تطورية ظهرت بعد اللاسعات بمئات الملايين من السنين.
ميزة جوهرية
ويشير هذا الاكتشاف يشير إلى أن “عدة الأدوات” الجزيئية اللازمة لتنظيم الجينوم في الحيوانات المعقدة كانت موجودة بالفعل في وقت مبكر جداً من تاريخ الحياة الحيوانية، قبل ظهور الأجسام المعقدة كما نعرفها اليوم.
ويرى الباحثون أن الميزة الجوهرية في هذا الأطلس الجديد لا تكمن فقط في تعداد العناصر التنظيمية، بل في الطريقة التي أعاد بها تعريف مفهوم هوية الخلية. ففي الدراسات التقليدية، تصنف الخلايا عادة بناء على الجينات التي تكون نشطة فيها، أي على أنماط التعبير الجيني.
ويساعد هذا النهج على فهم وظيفة الخلايا، لكنه لا يكشف بالضرورة عن أصولها التطورية أو مسار تطورها الجنيني.
أما في هذه الدراسة، فقد قام الباحثون بتجميع الخلايا بناء على العناصر التنظيمية النشطة لديها، وليس فقط على الجينات المعبر عنها. وكانت النتيجة مفاجئة: هذا التصنيف يعكس التاريخ التطوري والجنيني للخلايا، ويظهر بوضوح الطبقة الجنينية التي نشأت منها كل خلية.
ويفتح هذا الاكتشاف باباً جديداً لفهم كيفية نشوء أنواع خلوية متشابهة في الشكل والوظيفة من أصول جنينية مختلفة، فقد حللت الدراسة، على سبيل المثال، نوعين من الخلايا العضلية في شقائق النعمان، يتمتعان بقدرات انقباض متشابهة، ويستخدمان تقريباً المجموعة نفسها من الجينات الوظيفية.
ورغم هذا التشابه الظاهري، كشفت الخريطة التنظيمية أن هذه الجينات تدار في كل نوع من الخلايا عبر مجموعات مختلفة تماماً من العناصر التنظيمية، ما يعكس أصولاً جنينية مختلفة ومسارات تطور مستقلة، وبعبارة أخرى، قد تؤدي الخلايا الوظيفة نفسها باستخدام الجينات نفسها، لكن عبر “برامج تنظيمية” مختلفة جذرياً.
وقالت المؤلفة المشاركة في الدراسة، مارتا إجليسياس، الباحثة ما بعد الدكتوراه في مركز التنظيم الجينومي إن “التعبير الجيني يخبرنا بما تفعله الخلايا، لكن الحمض النووي التنظيمي يخبرنا من أين جاءت هذه الخلايا، وكيف تطورت، ومن أي طبقة جنينية نشأت” فهذا التمييز بين الوظيفة والأصل يُعد أساسياً لفهم تطور تنوع الخلايا عبر الزمن.
دلالات عميقة
فيبما أكدت الباحثة المشاركة في الدراسة، أناماريا إليك، أن العمل يبرز “قوة الجمع بين قراءات الجينوم على مستوى الخلية الواحدة ونماذج التعلم العميق لتحليل تسلسل الحمض النووي، من أجل فك الشيفرة التنظيمية الكامنة في هذه الجينومات” فقد استخدم الفريق نماذج حسابية متقدمة قادرة على التنبؤ بكيفية عمل العناصر التنظيمية اعتماداً على تسلسلها، ما أتاح تحليلاً منهجياً واسع النطاق لم يكن ممكناً في السابق.
من منظور تطوري، تحمل النتائج دلالات عميقة، فاللاسعات تُعد من أوائل الحيوانات التي امتلكت خلايا عصبية وعضلية، كما أنها تتميز بوجود الخلايا اللاسعة، وهي خلايا متخصصة تحتوي على تراكيب دقيقة تشبه الحراب، تستخدم للقبض على الفرائس والدفاع ضد المفترسات، وهي المسؤولة عن الإحساس باللسعة عند لمس قنديل البحر أو شقائق النعمان.
وأظهرت الدراسة أن نشوء مثل هذه الخلايا المتخصصة يمكن تفسيره، إلى حد كبير، من خلال إعادة توظيف وتعديل شبكات التنظيم الجيني، دون الحاجة إلى ابتكار جينات جديدة بالكامل.
كما يرى الباحثون أن شبكات تنظيم الجينات تُمثّل “أداة إبداعية” في يد التطور، فبدلاً من انتظار ظهور جينات جديدة، يمكن للتغيرات في مفاتيح التشغيل والإيقاف أن تولد أنواعاً جديدة من الخلايا والأنسجة.
وقد يفسر هذا كيف استطاعت الحيوانات المبكرة، في عصور سحيقة، أن تطور تنوعاً خلوياً ملحوظاً في فترة زمنية قصيرة نسبياً من منظور تطوري. وتضع الدراسة أساساً لفهم كيف ظهرت الخلايا اللاسعة لأول مرة، وكيف تمايزت عن أنواع خلوية أخرى باستخدام منطق تنظيمي جديد.
أهمية مستقبلية
وتتجاوز الأهمية المستقبلية لهذا العمل حدود شقائق النعمان، فمع تزايد عدد الأطالس التنظيمية لأنواع مختلفة من الحيوانات عبر شجرة الحياة، بما في ذلك أنواع لا تمتلك خلايا لاسعة، سيتمكن العلماء من مقارنة هذه الشبكات التنظيمية بشكل منهجي.
وعندها يمكن طرح أسئلة دقيقة عن أي أجزاء من هذه الدوائر التنظيمية قديمة ومشتركة بين معظم الحيوانات، وأيها حديث نسبياً، وما التغيرات التي رافقت ظهور أنواع خلوية جديدة عبر التاريخ التطوري؟
وقال المؤلف المشارك في الدراسة، أرناو سيبي-بيدروس، إن هذه الدراسة “تفتح عالماً جديداً كاملاً من الإمكانيات”، مضيفاً أن الباحثين باتوا، للمرة الأولى، قادرين على دراسة تطور الخلايا الحيوانية عبر مقارنة المعلومات الجينومية والتنظيمية بطريقة منهجية وعلى نطاق واسع، بدل الاعتماد على دراسات متفرقة أو نماذج محدودة.
في المحصلة، تشير نتائج الدراسة إلى أن القواعد الأساسية التي تسمح اليوم للخلايا العصبية بإرسال الإشارات وللخلايا العضلية بالانقباض كانت موجودة بالفعل قبل مئات الملايين من السنين، في كائنات بسيطة نسبياً كانت تعيش في بحار قديمة. ولم تكن هذه القواعد كامنة في الجينات وحدها، بل في الطريقة التي نظمت بها تلك الجينات ضمن شبكات معقدة من التحكم.
ومن خلال تسليط الضوء على هذا البعد التنظيمي العميق، تعيد الدراسة صياغة فهمنا لتطور الحياة الحيوانية، وتؤكد أن مفاتيح التنوع الخلوي تكمن، إلى حد بعيد، في كيفية قراءة الجينوم، لا في محتواه وحده.
