لم يعد المشهد الفني في الجزائر محكوماً بنمط واحد، بل يشهد تنوعاً في أشكال التعبير والإنتاج، وتلاقي التشكيلي الكلاسيكي مع ممارسات معاصرة متنوعة، أهمها فنون التركيب والفيديو آرت.
تطرح هذه التحوّلات أسئلة حول طبيعة الإنتاج الفني الحديث، في وقت لم يواكب فيه سوق الفن هذا التطوّر. وتتضح الحاجة لمعرفة كيف يتم تسويق الفنون التشكيلية والممارسات الجديدة في الجزائر، ومن هم الفاعلون الحقيقيون في عمليات اقتناء وتقييم الأعمال، وهل تخضع السوق لضوابط مهنية واقتصادية مشابهة للأسواق العالمية؟
الفن الجزائري بين الإرث والمعاصر
عرف الفن التشكيلي الجزائري مساراً طويلا منذ الاستعمار وما بعد الاستقلال، حيث شكّلت اللوحة الزيتية والنحت الدعامة الأساسية للتعبير الفني، متأثرا بالمدارس الواقعية والانطباعية والاستشراقية.
وكان من بين الروّاد باية محي الدين، محمد إسياخم، وشريف مرزوقي، الذين ساهموا في ترسيخ تقاليد هذه الفنون. ومع تغيّر المجتمع والجمهور لم تعد هذه الأساليب وحدها تكفي للتعبير عن طموحات الفنانين، فبدأ جيل جديد يستكشف أشكالاً جديدة تربط بين إرث الفن الكلاسيكي وإبداع العصر.
في البداية لم يجد هؤلاء جمهوراً متفاعلاً أو بيئات حاضنة لإبداعاتهم، لكنهم سرعان ما توجّهوا نحو وسائط حديثة مثل التصوير الفوتوغرافي، الفيديو آرت، والفنون التركيبية، لطرح رؤى مبتكرة تعكس أسئلة الحاضر وتحديات المجتمع.
قبل 10 سنوات نشرت أمينة زوبير، المتخصصة في الفن البصري والفيديو آرت، مقالا على موقع “Universes in Universe”، أشارت فيه إلى أن علاقة الجمهور الجزائري بفن الفيديو “شبه منعدمة”، مع نفور واضح من الأعمال التي “تتجاوز التقاليد”، بينما ظل الفن التشكيلي متمسكاً بالتمثيل الكلاسيكي.
بعد عقد من الزمن، ووسط تغير المشهد الفني، برزت الفنون الحديثة كوسائط للتعبير عن أسئلة العصر، لكنها لا تزال تكافح للظهور في الإعلام والمؤسسات الثقافية، وتتعدد هذه الوسائط بين الفنون الرقمية المصممة بالحاسوب، والفيديو آرت المبني على تحريك الصور، والتركيبات الفنية ثلاثية الأبعاد.
في هذا السياق تؤكد الكاتبة الصحفية سلمى قويدر، أن هذه الفنون تعتمد على الصورة المتحوّلة والزمن، وعلى العلاقة المتزايدة للفرد بالتقنيات، ما يمنحها قدرة كبيرة على التعبير الفني المعاصر”.
تضيف: “ومع ذلك، يظل الاعتراف بها محدوداً، ليس لنقص التجارب أو هشاشتها، بل لأن آليات التقدير ما تزال مرتبطة بالنماذج التقليدية. ولأن الأعمال لا تُختزل في قطعة معروضة أو قابلة للاقتناء”.
ورغم تطورها ومحاولتها إيجاد سوق وجمهور أوسع، تواجه الفنون الحديثة في الجزائر نقصاً في البيئة الحاضنة، مع ندرة الفضاءات المتخصصة، وضعف التكوين والتمويل، وغياب سياسات لبناء جمهور متلق.
وتعتبر قويدر أن المنصّات الرقمية “تمنح الفنانين فرصة للتجريب وكسر العزلة، لكنها لا تستطيع استبدال مؤسسات ثقافية حقيقية، ولا تضمن استمراريتها ما لم يرافقها تصوّر يضع هذه الفنون في مكانها الطبيعي”.
ومع ذلك، استطاع بعض الفنانين مثل عادل عبد الصمد، كاتيا كاملي، وزليخة بوعبد الله أن يصنعوا حضوراً مميزاً، من خلال الفيديو آرت، التركيبات، والفنون الرقمية والتفاعلية. حيث يجمعون بين الرسم والموسيقى والشعر ويستخدمون الفيديو والتصوير، لاستكشاف الحدود الاجتماعية والثقافية والسياسية، ما يؤكد قدرة الفنان الجزائري على إنتاج الفنون الحديثة.
الجمهور بين التلقي والاقتناء
أمام هذا التحوّل في أشكال التعبير الفني، يبرز عامل حاسم في تحديد مصير هذه الأعمال خارج فضاء العرض، يتمثل في الجمهور بوصفه متلقيا ومقتنيا، إذ يقتصر غالبا اقتناء الأعمال الفنية في الجزائر على بعض المؤسسات والفئات المهتمة، بينما يظل الجمهور العام أقل انخراطاً نتيجة محدودية ثقافة الاستثمار وضعف التكوين النقدي.
وبين الفنون الكلاسيكية والحديثة، يتباين موقف الجمهور. فبعض الأشخاص مثل حسام يركزون على التفاعل الفكري مع الفنون الحديثة دون امتلاكها، في حين يمثل آخرون مثل جهيدة فئة المقتنين المنتظمين للتحف من المعارض مباشرة. وبالرغم من هذا التباين يظل الفن في الجزائر نخبوياً.
إذ يقتصر الإقبال على الفنون الكلاسيكية على جمهور محدود، بينما تكافح الممارسات الحديثة والرقمية لنيل الاعتراف والانتشار. إن تقدير الأعمال المعاصرة مقابل الحرص على الفنون الأخرى يمثّل تحدياً وفرصة في آن واحد، كما يمثّل هذا التفاوت بين التلقي والاقتناء أحد أبرز العوائق أمام تشكّل سوق فنية قادرة على استيعاب التحوّلات التي يعرفها الفن الجزائري.
مبادرات في انتظار السوق
مع هذه التحولات في الذائقة والفنون، برزت الحاجة إلى سوق فنية، ورغم تعدد التظاهرات الثقافية في الجزائر، إلا أنها لم ترتق إلى مستوى سوق منظمة بالمفهوم المتعارف عليه.
عام 2018 أطلقت مبادرة “ربيع الفنون” لعرض وبيع اللوحات والأعمال النحتية، وشملت أكثر من 500 عمل من مدارس متنوّعة (السريالية والتجريدية…). إلا أن التجربة لم تتكرر.
بعدها ظهرت منصّة “لوحتي” (2021) لمنح الفنانين فرصة بناء استثمارات مستدامة وتأسيس سوق رقمية.
الخبير الاقتصادي والوزير السابق للاستشراف الدكتور بشير مصطفى، أوضح “أن غياب سوق فنية منتظمة في الجزائر، يعود إلى غياب رؤية مدروسة لنظام فني متكامل كما هو موجود في المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية، وضعف ميزانية قطاع الثقافة والفنون، وعدم استكمال قانون الفنان. فضلاً عن تراجع الطلب على المنتجات الفنية في مجالات المسرح والسينما والتشكيل، نتيجة التحوّل غير المدروس من النظام الاشتراكي بعد الستينات إلى اقتصاد السوق أواخر الثمانينات.
حاول المهرجان الثقافي الدولي للفن التشكيلي المعاصر في نسخته الأخيرة، الانتقال من العرض التقليدي إلى سوق فنية فعلية، مع التركيز على الأهداف الاقتصادية. وأكد محافظ المهرجان الفنان حمزة بونوة، “أن السوق لا يبنى بالعرض وحده، بل عبر رؤية طويلة المدى تقوم على مشروع سنوي يجمع الفنانين والأروقة”.
وأكد أن تحويل المهرجان إلى أول نموذج “آرت فر” جزائري، كان خطوة نحو ذلك، رغم أن الإطار الثقافي للمهرجان لا يملك الصلاحيات القانونية للتسويق والبيع، ما دفع بونوة -الذي أسس عند استقراره بالجزائر ديوانية الفن- لاقتراح فصل “الآرت فير” ضمن منظومة قانونية مستقلة للعمل كمنصة اقتصادية حقيقية.
وأوضح أن هذا المسار يمكنه إنتاج ديناميكية تجذب المقتنين، رغم وجود فجوة في القيمة السوقية لأعمال محلية مقارنة بالدول الأخرى. فأعمال الفنانين الجزائريين تتراوح أحيانا بين 200 و 500 دولار، بينما تتجاوز أعمال فنانين من المستوى نفسه في دول أخرى 5 آلاف إلى 10 آلاف دولار.
كما شدد على سعي المهرجان لدمج الابتكار الرقمي والفنون الحديثة، مستفيداً من المنصّات الرقمية والذكاء الاصطناعي، لتوسيع الجمهور والمستثمرين وابتكار أشكال فنية جديدة، بما يجعل الفن التشكيلي أكثر انفتاحاً وتأثيراً اقتصادياً وثقافياً.
ورغم الحضور التاريخي للفن التشكيلي الجزائري، لا يزال يفتقر إلى سوق ومزادات منظمة وفق المعايير العالمية، مثل شفافية الأسعار وحقوق الملكية الفكرية وتقييم الخبراء، ما يكشف خللا في تداول الأعمال.
في المقابل يسوق جزء مهم من الفن الجزائري وموضوعاته عبر منصّات دولية، كما في لوحة بيكاسو الشهيرة “نساء جزائريات” التي بيعت عام 2015 مقابل 179,4 مليون دولار، ما يعكس الطلب الكبير على التراث الفني ذي الجذور الجزائرية.
كما سجّل فنانون جزائريون حضوراً مهما في المزادات الدولية، مثل محجوب بن بلة الذي بيعت أعماله ب 15,120 جنيه إسترليني في لندن و 22,680 دولار في دبي، وأعمال محمد إسياخم المقدرة بـ 30,000 يورو، ما يعكس الطلب العالمي في ظل غياب آليات تسويق محلية فعالة.
وبالموازاة تصنع الفنون الحديثة، بما فيها الفن الافتراضي والتركيب، مسارها خارج السوق التقليدية، وتحظى بحضور متنام في التظاهرات الدولية مثل معرض “طباق”، لكنها لا تزال دون منصات تجارية منظمة، ولم تدرجها وزارة الثقافة والفنون سنة 2025 ضمن مدونة المهن الفنية.
