شدد الرئيس الروماني نيكوسور دان، على حاجة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلى “فهم بعضهما البعض بشكل أفضل”، معتبراً في مقابلة مع مجلة “بوليتيكو”، أن “الأخلاق لم تعد ذات أهمية كبيرة في عالم (الرئيس الأميركي دونالد) ترمب الجديد”.
وعلى حد وصف مجلة “بوليتيكو” في نسختها الأوروبية، فإن قادة أوروبيين، من بينهم دان، “قضوا معظم عام 2025 في محاولة لفهم كيفية التعايش مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أو ما هو أسوأ من ذلك، كيفية التعامل مع غيابه”، فمنذ عودة “المُعطل الأكبر” للأعراف الدولية إلى البيت الأبيض في يناير الماضي، بحسب تعبير الرئيس الروماني، “أوضح جلياً مدى قلة اهتمامه بأوروبا، في وقت يُبدي فيه بعض مساعديه الرئيسيين عداءً صريحاً لها”.
وبالنسبة لقادة مثل الرئيس الروماني المعتدل، يتمثل التحدي الدائم في تحديد إلى أي مدى يمكن القبول بأولويات ترمب، لأن أوروبا ما زالت بحاجة إلى الولايات المتحدة، وإلى أي حد يجب مقاومة عداء الرئيس الأميركي للقيم الأوروبية، بحسب “بوليتيكو”. وتساءلت المجلة عما إذا كان لا يزال هناك تحالف حقيقي عبر الأطلسي.
عالم ترمب الجديد
وقال دان لـ”بوليتيكو”: “العالم تغيّر. انتقلنا، إلى حد ما، من طريقة أخلاقية في إدارة الأمور إلى طريقة عملية واقتصادية بحتة”.
وأوضح أن “قادة الاتحاد الأوروبي يدركون هذا التحول، ويركزون الآن على تطوير استراتيجيات عملية للتعامل مع واقع عالم ترمب الجديد”، مضيفاً أن “التيار الوسطي بات مضطراً لأخذ حملة أميركية منظمة في الحسبان، تهدف إلى دعم خصومه الشعبويين من اليمين، في إطار مساعٍ أميركية لتغيير وجهة أوروبا”.
وكان مسؤولون في الإدارة الأميركية، من بينهم نائب الرئيس جي دي فانس، قد أدانوا إلغاء الانتخابات في رومانيا العام الماضي، فيما تشير استراتيجية الأمن القومي الجديدة للبيت الأبيض إلى أن الولايات المتحدة ستسعى إلى “توجيه” السياسة الأوروبية بما يخدم أجندة “ماجا” MAGA المناهضة للهجرة.
ويرى دان أنه “لا بأس” أن يعبّر سياسيون أميركيون عن آرائهم، لكنه حذّر من أن الأمر سيصبح “مشكلة” إذا حاولت الولايات المتحدة “التأثير” في السياسة الأوروبية “بطرق غير ديمقراطية”، مثل تمويل وسائل إعلام داخل دول أوروبية “كما يفعل الروس”، بحسب تعبيره.
أوروبيون ضعفاء
وتُعد العلاقات مع الولايات المتحدة حيوية لبلد مثل رومانيا، التي حافظت، على نحو غير معتاد، على انفتاحها على الغرب طوال أربعة عقود من “الحكم الشيوعي”.
وتقع رومانيا على الحافة الشرقية للاتحاد الأوروبي، على حدود أوكرانيا، وتستضيف قاعدة كبرى لحلف الناتو، يُتوقع أن تصبح الأكبر في أوروبا، إضافة إلى موقع أميركي للدفاع الصاروخي الباليستي. غير أن إدارة ترمب أعلنت سحب 800 جندي أميركي من رومانيا، ما أثار قلقاً في بوخارست.
كما يرى دان، أن أوروبا والولايات المتحدة “حليفان طبيعيان”، لأنهما يتشاركان قيماً أكثر من أي مناطق أخرى في العالم، مشيراً إلى إمكانية قيام “شراكة حقيقية… على المدى المتوسط”. لكنه أقر بأن الطرفين “يمران الآن بفترة انتقالية، ويحتاجان خلالها إلى فهم بعضهما البعض بشكل أفضل”.
وذكرت “بوليتيكو”، أن تقييم دان “الصريح” يكشف حجم الضرر الذي لحق بالتحالف عبر الأطلسي هذا العام، فقد أدخل ترمب حالة من عدم اليقين إلى جميع جوانب التحالف الغربي، بما في ذلك السعي إلى استعادة العلاقات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ولفت الرئيس الروماني، إلى أن الأوروبيين بدوا، في أحيان كثيرة، عاجزين عن تحديد كيفية الرد. وبسؤال الرئيس الروماني عما إذا كان ترمب كان محقاً عندما قال لها هذا الشهر إن القادة الأوروبيين “ضعفاء”، أجاب بـ”نعم”، مضيفاً أن تقييم ترمب يحمل “قدراً” من الحقيقة.
وأوضح أن أوروبا قد تكون بطيئة في اتخاذ القرارات، مستشهداً بأن الاتفاق على تمويل أوكرانيا، استغرق أشهراً من الجدل، وقمة متوترة في بروكسل الأسبوع الماضي انتهت عند الثالثة صباحاً (بالتوقيت المحلي للمدينة). لكنه شدد في المقابل على أن الاتحاد الأوروبي، رغم انقساماته، اتخذ في النهاية “القرار المهم”.
ويقضي ذلك القرار باقتراض 90 مليار يورو من ديون الاتحاد الأوروبي المشتركة، لتقديم قرض إلى كييف التي تعاني شح السيولة، ما يساعد أوكرانيا على الاستمرار في مواجهة بوتين خلال العامين المقبلين.
وبحسب قادة في الاتحاد الأوروبي يدعمون الخطة، التي لن تشارك فيها المجر وسلوفاكيا والتشيك، فإن هذه الخطوة تزيد من فرص التوصل إلى اتفاق سلام، لأنها توجه إشارة إلى بوتين بأن أوكرانيا لن تنهار إذا طال الانتظار.
“نهاية بعيدة” لحرب أوكرانيا
لكن دان يرى أن “نهاية الحرب ما زالت بعيدة”، رغم ضغوط ترمب من أجل وقف إطلاق النار.
وتابع: “أنا أميل إلى التشاؤم أكثر من التفاؤل على المدى القصير”، معتبراً أن “الجانب الروسي لا يبدو راغباً في السلام”، إذ “يعتقدون أن السلام بعد شهرين أو ثلاثة سيكون أفضل لهم من السلام الآن. لذلك سيواصلون القتال، لأن لديهم بعض التقدم المحدود على الأرض”.
وكان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، خلال قمة المجلس الأوروبي الأسبوع الماضي، قال إنه “يريد من ترمب ممارسة مزيد من الضغط على بوتين للموافقة على وقف إطلاق النار”. وعند سؤاله عما إذا كان يوافق على ذلك، قال دان: “بالطبع. نحن ندعم أوكرانيا”.
ونبّه إلى أن العقوبات “القوية للغاية” التي فرضها ترمب مؤخراً على شركتي النفط الروسيتين “روسنفت” و”لوك أويل” بدأت تؤتي ثمارها. كما رحَّب بالتزام ترمب بتحقيق السلام، وبالانفتاح الأميركي الجديد على تقديم ضمانات أمنية لدعم أي اتفاق نهائي.
ومن الواضح أن الرئيس الروماني، يأمل ألا يسيطر بوتين على كامل إقليم دونباس في شرق أوكرانيا، لكنه لا يريد تقييد خيارات زيلينسكي. وقال: “أي سلام يكافئ المعتدي، بشكل أو بآخر، ليس جيداً لأوروبا ولا لأمن العالم في المستقبل”.
ومضى يقول: “لكن قرار السلام يقع على عاتق الأوكرانيين وحدهم. فهم يعانون كثيراً، ولا يمكننا لومهم على أي قرار يتخذونه”.
وتلعب رومانيا دوراً محورياً بوصفها مركزاً عملياتياً لنقل الإمدادات والمساعدات إلى أوكرانيا المجاورة، وبفضل ميناء كونستانتسا على البحر الأسود، ستكون البلاد عنصراً أساسياً في أي عمليات حفظ سلام مستقبلية.
وأشار دان، خلال مقابلته مع “بوليتيكو”، إلى أن جنوداً أوكرانيين يتلقون التدريب في رومانيا، وإن بلاده “تعمل بالفعل مع بلغاريا وتركيا على إزالة الألغام من البحر الأسود”.
وفي الوقت نفسه، اخترقت طائرات روسية مسيّرة المجال الجوي الروماني أكثر من 10 مرات منذ بدء الحرب في فبراير 2022، واضطرت قرية حدودية مع أوكرانيا إلى الإخلاء مؤخراً، بعدما أشعلت طائرات مسيّرة حريقاً في ناقلة غاز، غير أن دان قلل من حجم التهديد.
وقال: “كانت هناك بعض الطائرات المسيّرة. نحن متأكدون من أنها لم تُرسل عمداً إلى أراضينا”، مضيفاً: “نحاول أن نطمئن شعبنا بأنهم ليسوا في خطر على الإطلاق”. ومع ذلك، تمضي رومانيا في زيادة إنفاقها العسكري لردع روسيا، بحسب النسخة الأوروبية من المجلة الأميركية.
وفاز نيكوسور دان، البالغ من العمر 56 عاماً، برئاسة رومانيا في مايو الماضي، في لحظة حرجة لبلد يبلغ عدد سكانه، 19 مليون نسمة.
وتمكّن رئيس بلدية بوخارست السابق، المحسوب على التيار المعتدل، من هزيمة منافسه الشعبوي المتشكك في دعم أوكرانيا، خلافاً للتوقعات.
وجاء التصويت بعد إعادة الانتخابات، عقب إلغاء الجولة الأولى في ديسمبر الماضي، على خلفية مزاعم بتدخُّل روسي واسع وأنشطة غير قانونية دعمت المرشح اليميني المتطرف المتصدر آنذاك، كالين جورجيسكو. ولا تزال دعاوى قضائية قيد النظر، من بينها اتهامات موجهة إلى جورجيسكو وآخرين بالتخطيط لانقلاب مزعوم.
لكن بالنسبة لكثير من الرومانيين، لم يؤد إلغاء انتخابات 2024 سوى إلى تعزيز تشككهم في النظام الديمقراطي برمته. فقد أرادوا التغيير، وصوَّت ما يقرب من نصف الناخبين لصالح اليمين المتطرف لتحقيقه، حسبما ذكرت “بوليتيكو”.
مزاعم فساد
ولا يزال الفساد يُمثّل مشكلة كبرى في رومانيا، وقد جعل الرئيس الروماني من استعادة ثقة الناخبين مهمة أساسية له، غير أنه خلال الأشهر الستة الأولى من ولايته، ركز على خفض “مؤلم لم يحظ بتأييد شعبي” للإنفاق في القطاع العام، للسيطرة على عجز الموازنة، وهو الأكبر في الاتحاد الأوروبي. واعترف قائلاً: “في القضايا الكبرى للمجتمع، وعلى رأسها الفساد، لم نفعل الكثير”.
لكنه أكد أن ذلك سيتغير، فقد أثار فيلم وثائقي تلفزيوني حديث عن مزاعم فساد في القضاء، احتجاجات في الشوارع، ورسالة احتجاج موقّعة من مئات القضاة.
ومن المقرر أن يلتقي دان بهم هذا الأسبوع، على أن يعمل بعد ذلك على إصلاحات تشريعية تركز على ضمان ترقية أفضل القضاة على أساس الكفاءة لا العلاقات الشخصية. وقال: “أصحاب النفوذ يعملون لصالح شبكات مصالح صغيرة، بدلاً من الصالح العام”.
وشدد على أن الدولة “لم تفعل بعد ما يكفي لشرح أسباب إلغاء الانتخابات العام الماضي للناخبين”. وأضاف أن “مزيداً من التفاصيل سيُكشف عنها في تقرير متوقع خلال الشهرين المقبلين”.
اتهامات بتدخل روسي
واستدرك دان قائلاً، إن بلاده كانت “هدفاً لموسكو منذ عقد من الزمن”، وإن قادة أوروبيين آخرين أبلغوه بأنهم يواجهون اليوم حملات التضليل نفسها، فضلاً عن أعمال تخريب، مشيراً إلى أن “أحداً لا يملك حلاً لسيل الأخبار الزائفة على الإنترنت”.
وبيّن: “أتحدث مع قادة دول أكثر تقدماً منا، وأعتقد ألا أحد لديه حلاً نهائياً، عندما تنتشر تلك المعلومات وتصل إلى نصف مليون شخص، حتى لو خرجت في اليوم التالي لتقول إنها كاذبة، تكون قد خسرت بالفعل”.
ويتقدم حزب “التحالف من أجل اتحاد الرومانيين” اليميني الشعبوي في استطلاعات الرأي بنحو 40%، في نمط يعكس ما يجري في أنحاء أخرى من أوروبا.
ويرى دان، الذي هزم زعيم الحزب جورج سيميون في مايو الماضي، أنه على فريقه الاقتراب أكثر من الناس لمواجهة الشعبوية.
كما أعرب عن أمله في أن يتوقف “الساسة الوطنيون” في أوروبا، عن تحميل بروكسل مسؤولية سياساتهم التي لا تحظى بتأييد شعبي، لأن ذلك لا يؤدي إلا إلى تغذية التيارات الشعبوية.
وتحدَّث دان عن أنه يدرك أن سياسة الاتحاد الأوروبي “هي في جوهرها عملية ديمقراطية، تطرح فيها الدول الأعضاء أفكارها المختلفة”، موضحاً: “من خلال خبرتي التي تمتد ستة أشهر، أستطيع القول إن الأمر عبارة عن نقاش حقيقي”.
وأردف بالقول: “لا يوجد سيد بيروقراطي يدير الأمور. إنها ديمقراطية. ومن المؤسف أن الناس لا يشعرون بذلك بشكل مباشر”.
أما عن قمم الاتحاد الأوروبي الطويلة التي تمتد إلى ما بعد منتصف الليل، فقال دان: “الموضوعات مختارة بشكل جيد، لكنني أعتقد أن النقاشات تطول قليلاً أكثر من اللازم”.
