اخبار تركيا

استعرض مقال للكاتب والخبير التركي يحيى بستان، التحولات العميقة في النظام الدولي بعد الحرب الأوكرانية، وتداعيات انهيار مبدأ «حرمة الحدود» على الأمن الإقليمي، مع تركيز خاص على موقع تركيا في هذا المشهد المتقلب.

يناقش بستان تراجع الاعتماد على المظلات الأمنية التقليدية، وعلى رأسها حلف الناتو، وصعود الحاجة إلى ردع وطني مستقل عبر الصناعات الدفاعية والجيش القوي. كما يتطرق إلى المخاطر المتزايدة في سوريا، ودور «قسد» والدعم الإسرائيلي لها، وأهمية قطع ما يُعرف بـ«ممر داود».

وفي هذا السياق، يدعو الكاتب إلى إعادة النظر في نموذج الخدمة العسكرية الإلزامية، وتحويلها من عبء مؤقت إلى أداة لبناء مهارات مدنية وأمنية، بما يعزز قدرة المجتمع على حماية نفسه في «العالم الجديد» الذي تفرضه التحولات الجيوسياسية.

وفيما يلي نص المقال الذي نشرته صحيفة يني شفق:

لماذا نقوم ببناء الملاجئ في إحدى وثمانين ولاية (المشاريع قيد الإعداد حالياً)؟ لأن “العالم الجديد” يفرض ذلك. فمنطقتنا كانت مضطربة بالفعل، لكن الحرب الأوكرانية كشفت حقيقة صادمةً للجميع: ” لقد تلاشى مبدأ حرمة الحدود.” ويتضح من محادثات أوكرانيا التي جرت خلال الأسبوعين الماضيين، في برلين أولاً ثم في ميامي، أن الغرب سيعترف رسمياً بطريقة أو بأخرى بسقوط هذا المبدأ. وهذا يعد سابقة ستؤدي إلى تصدعات جيوسياسية كبرى في المستقبل.

تتبنى الولايات المتحدة حالياً مقاربة عالمية جديدة؛ وما نتحدث عنه ليس مجرد “سياسة ترامب”، بل هو نهج لن يكون فيه تراجع في مرحلة ما بعد ترامب. وتشير هذه المقاربة العالمية إلى رؤية تركز فيها الولايات المتحدة على القارة الأمريكية والصين، بينما ينتقل “كفاحها ضد داعش” إلى أفغانستان وأفريقيا وشرق آسيا (يُذكر أن منفذي هجمات داعش في أستراليا تلقوا تدريبهم في الفلبين)، وتعتمد فيها أوروبا على نفسها في المجال الأمني، مع الحفاظ على تماس مباشر مع روسيا. إنها عملية ستقلص فيها القوة المهيمنة وجودها في منطقتنا، وهو ما يسيثير الفوضى. وتُعدّ تركيا “الأخ الأكبر” في المنطقة، ويتعين عليها أن تكون قوية من أجل أمنها وأمن أصدقائها وحلفائها.

هل تُفعَّل المادة الخامسة لصالح تركيا؟

تدفع الأزمات الإقليمية (أوكرانياغزة) إلى إعادة تعريف التحالفات. فأوروبا، رغم الموقف اليوناني، تطوّر تعاونًا مع تركيا ضمن أطر معيّنة. وفي المقابل تتجه اليونان في ضوء هذه التطورات، إلى بناء تحالفٍ مع إسرائيل ضد تركيا. إنّ العلاقات المتنامية مع أوروبا إيجابية، لكنها لا توفّر وحدها “ضمانة أمنية” لتركيا. ولا يزال حلف شمال الأطلسي مظلّة أمنية مهمّة، غير أنّ مهمّته باتت محلّ نقاش (إذ قال الأمريكيون لألمانيا: “تولّوا قيادة الناتو بدلًا منا”). وحتى لو استمر الناتو، فقد لا تُفعَّل المادة الخامسة لصالح تركيافي جميع الظروف (تذكّروا حادثة إسقاط الطائرة الروسية). ومن ثمّ، يتعيّن على تركيا أن تؤمّن قدرتها على الردع عبر صناعاتها الدفاعية وجيشها القوي.

ضرورة قطع “ممر داود”

رغم مساعي ترامب، لم تفقد إسرائيل اهتمامها بسوريا. ومن المقرر أن يلتقي ترامب ونتنياهو في 29 ديسمبر؛ حيث سيطلب ترامب من رئيس الوزراء الإسرائيلي “عدم تجاوز الحدود” في سوريا ولبنان وغزة. وفي المقابل، يبدو أن نتنياهو سيطلب من ترامب منح الضوء الأخضر للتحرك ضد إيران. وتكتسب مسألة قسد أهمية خاصة في هذا الإطار؛ إذ ينتهي اتفاق 10 مارس/آذار بنهاية العام الجاري. وقد أبدت دمشق مرونةً كبيرة لإقناع قسد (حتى قيل إنّ عبدي عُرض عليه منصب نائب رئيس الأركان). كما قيل إن دمشق وافقت على دمج القوات في ثلاثة فرق عسكرية، ورغم ذلك، تُصرّ قسد على «الفيدرالية». تحظى “قسد” بدعم إسرائيلي كامل (سبق وذكرنا وجود لقاءات أسبوعية بينهما، والمعلومات الجديدة تشير إلى تحركات نشطة للقوات الخاصة الإسرائيلية في الحسكة). فإذا ما انقطعت خيوط التفاوض وتدخلت دمشق ضد قسد، وقامت إسرائيل في تلك اللحظة باستهداف دمشق، فماذا سيحدث؟ سيفتح ذلك الطريق أمام “قسد” للتمدد جنوباً وفي هذا السياق، تكتسب زيارة كل من وزير الخارجية هاكان فيدان ووزير الدفاع يشار غولر ورئيس جهاز الاستخبارات إبراهيم قالن إلى دمشق دلالات واضحة. لطالما كتبتُ: إذًا، ينبغي أولًا إغلاق بوابة ممرّ داود عند دير الزور.

إعادة النظر في الخدمة العسكرية الإلزامية

إن هذه التطورات العالمية والإقليمية تدفع الدول إلى إعادة النظر في ملف “الخدمة العسكرية الإلزامية”. فالدول التي كانت تركن إلى مظلة الناتو والوجود الأمريكي في أوروبا، وبدأت بالتراجع عن التجنيد الإجباري، تجد نفسها اليوم أمام “مناخ استراتيجي” مغاير تماماً. لقد أعادت ليتوانيا العمل بالخدمة العسكرية الإلزامية في عام 2015، وتبعتها السويد في 2017، ثم لاتفيا في 2023. وفي الدنمارك، بدأ تجنيد النساء في الجيش أيضاً. ومن المتوقع أن تعود صربيا وكرواتيا إلى التجنيد الإجباري في عام 2026. أما ألمانيا، التي ألغته في عام 2011، فتناقش الآن إعادته. وفي دول عدة، من بينها اليونان والنرويج، تم تمديد فترة الخدمة العسكرية لتصل إلى 12 شهراً.

لا أود إثارة حفيظة إخواني من الشباب، لكن موقفي الشخصي يتلخص في الآتي: حين نفكر في موقع تركيا الجيوسياسي، و”متطلبات العالم الجديد”، والمخاطر والتهديدات المحتملة؛ فإنني لا أجد النموذج الهجين المطبق حالياً (6 أشهر إجبارية أو بدل مالي) مقنعاً بما يكفي. ورغم التطور التكنولوجي وانتشار الأنظمة ذاتية القيادة، أرى أن “الخدمة العسكرية المأجورة” يجب أن تظل استثناءً لا أصلاً. ولكن لا يُفهم من كلامي أنني أدعو للعودة إلى النظام القديم؛ بل يجب تحديث مدة ونطاق الخدمة الإلزامية، وكذلك محتواها.

منح تراخيص لمن يُؤدون الخدمة

يرى بعض الشباب الذين يتحفظون على الخدمة العسكرية الإلزامية أنها “وقت ضائع” يؤثر على مسيرتهم المهنية. ويمكن تبديد هذا القلق عبر خطوات عملية. فبينما يؤدي الشباب الذين يُستدعون للخدمة مسؤولياتهم في المناطق الغير قتالية، يمكنهم أن يكتسبوا تجهيزا ومهارات تفيدهم في حياتهم المدنية عبر دورات تُمنح لهم ورُخَصٍ معتمدة من وزارة التربية الوطنية ومجلس التعليم العالي.

ويمكن تقديم تدريبات في مجالات مثل: قراءة الخرائط وتحديد الاتجاهات (وهناك ما يسمى “الملاحة الرياضية” ولها اتحادها الخاص) والتجديف، ومهارات البقاء في الطبيعة (استلهامًا من برنامج «الإنسان في الطبيعة» لسردار كليج)، والتواصل في أوقات الأزمات، والإسعافات الأولية، والحماية الذاتية من مخاطر المواد المتفجرة. وخلال فترة الخدمة العسكرية، كما يمكن عبر الدورات المقدمة أثناء الخدمة أن تُقدَّم للشباب رُخَص وشهادات في مجالات مثل البحث والإنقاذ (وله إجراءات متعددة في الحياة المدنية)، والقبطنة، وتشغيل الطائرات المسيّرة، والطهي، وغيرها من المهن. ولا تقتصر الاستفادة من هذه المسارات التدريبية على الرجال فقط، بل يمكن للنساء أيضًا الاستفادة منها.

إن أهم مهارة ينبغي أن توفّرها الخدمة العسكرية الإلزامية هي “تعلّم حماية النفس”. فإذا كنا نقدّم لشعبنا “السمكة” عبر بناء الملاجئ، فعلينا أيضًا أن نعلّمه كيف يصطاد السمك.

شاركها.