ابتهج الفلسطينيون باتفاق وقف إطلاق النار في غزة بعد حرب دامية استمرت عامين، وحصدت عشرات الآلاف من الأرواح، ودمرت غالبية قطاع غزة، ليكتشفوا بعد سريان وقف النار أن الحرب لم تنته، وانها مستمرة بأشكال أخرى وتتكثف في الضفة الغربية.
الأثر السياسي للحرب
تركت الحرب آثاراً كبيرة على القضية الفلسطينية، وعلى الأرض الفلسطينية، وعلى المجتمع الفلسطيني، وعلى النظام السياسي الفلسطيني.
على الأرض، أعادت إسرائيل احتلال أكثر من نصف مساحة قطاع غزة، وترفض الانسحاب منها إلا بشروط بالغة الصعوبة، في مقدمتها تجريد حركة “حماس” وقطاع غزة من السلاح.
وينتشر الجيش الإسرائيلي على حوالي 53% من مساحة قطاع غزة، في المنطقة الشرقية المحاذية للحدود من مساحة القطاع الصغيرة التي لا تتجاوز 365 كيلومتراً مربعاً، محاصراً أكثر من مليوني فلسطيني في مساحة صغيرة تفتقر لأبسط الخدمات الإنسانية من بيوت ومياه وصرف صحي وكهرباء وطرق.
وظهرت في إسرائيل نقاشات حول مصير هذه المناطق المحتلة، تراوحت بين المطالبة بإقامة مناطق عازلة واسعة إلى إعادة إحياء الاستيطان.
وفيما تشترط إسرائيل الانسحاب من غزة، وفق خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، التي تحولت إلى قرار دولي صادر عن مجلس الأمن الدولي، بنزع سلاح حركة “حماس”، تشترط الأخيرة معالجة موضوع السلاح بانسحاب الجيش الإسرائيلي، وحلول قوات فصل دولية، ما يخلق انسداداً يبقي الوضع القائم على حاله لفترة قادمة، ربما تكون طويلة.
وفي ظل هذا الانسداد، تتجه الأنظار إلى الإدارة الأميركية وما يمكن لها أن تقرره بشأن الانتقال إلى المرحلة التالية من خطة ترمب.
حسم الصراع
وبالتوازي مع حرب غزة، كثفت إسرائيل حملات الاستيطان في الضفة الغربية هذا العام، معلنة عن سلسلة خطط لإقامة المزيد من المستوطنات والبؤر الاستيطانية والبنى التحتية للمستوطنات التي باتت تسيطر على الجزء الأكبر من الأرض، وربطها بإسرائيل.
وقال مدير التوثيق في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان أمير داود، لـ”الشرق”، إن إسرائيل “تكثف وتوسع الاستيطان في الضفة الغربية بطريقة لا تبقي للفلسطينيين سوى مراكز المدن والقرى”.
وأضاف: “أعلنت إسرائيل هذا العام عن سلسلة مشاريع توسع استيطانية، ففي فبراير أعلنت عن تحويل 13 حياً استيطانياً إلى مستوطنات مستقلة، وفي مايو أعلنت عن إقامة 22 مستوطنة جديدة، وفي ديسمبر أعلنت عن إقامة 19 مستوطنة جديدة”.
وأعلن وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموترتش، الذي يتولى منصب وزير ثانٍ في وزارة الدفاع، أن حكومته أقامت 69 مستوطنة جديدة خلال ولايتها المتواصلة منذ 3 سنوات، متعهداً بالمزيد في السنة القادمة.
وأعلن سموترتش، في منشور له على موقع حزبه “الصهوينية الدينية”، عن خطة لتحويل 63 بؤرة استيطانية إلى مستوطنات رسمية.
ملء الفراغات
ويلاحظ المتتبع لخريطة التوسع الاستيطاني الجديدة أنها تعمل على ملء الفراغات المتبقية في الضفة الغربية.
وشملت الخطة الأخيرة التي صادقت عليها الحكومة الإسرائيلية إعادة بناء المستوطنات التي جرى إخلاؤها في العام 2005 في منطقة جنين شمال الضفة الغربية، لقربها من التجمعات السكانية المكتظة وهي مستوطنات “جانيم” و”غاديم” و”سانور”.
وأعلن سموترتش عن نقل لواء عسكري كامل “لواء منشه”، لتوفير الحماية لهذه المستوطنات.
ميليشيات ومسيرات
وانتشرت هذا العام ظاهرة ميليشيات المستوطنين التي بسطت سيطرتها على مساحات واسعة من أراضي الضفة الغربية الواقعة في السفوح الشرقية، إذ زودت الحكومة المستوطنين ببنادق رشاشة وسيارات دفع رباعي وطائرات مسيرة وأجهزة اتصال لتنفيذ مشاريع التوسع الاستيطاني.
واستخدم المستوطنون هذه الأدوات القتالية والرقابية المتطورة في ملاحقة وتهجير التجمعات الفلسطينية. وبحسب مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (أوتشا)، ارتكب المستوطنون، خلال عام 2025، أكثر من 1700 اعتداء على فلسطينيين في 270 موقعاً بالضفة الغربية.
ومن بين الضحايا سكان في بيوتهم، وقاطفو زيتون ومزارعون في حقولهم، وصحافيون في ميادين العمل، وسائقون ومسافرون في سياراتهم.
وذكر تقرير، صدر مؤخراً عن مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الانسان “بتسيلم”، إن المستوطنين قاموا خلال العامين الأخيرين بتهجير سكان 44 تجمعاً فلسطينياً، وأقاموا مكانهم بؤراً استيطانية.
جدار شرقي
وشملت الخطط الاستيطانية الإسرائيلية الجديدة إقامة جدار شرقي بعمق 12 كيلومتراً من الحدود الأردنية إلى السفوح الشرقية للضفة الغربية، وشملت أيضاً شق طرق جديدة، وإقامة مشاريع بنى تحتية، منها مشاريع طاقة تزود إسرائيل بـ 20% من احتياجاتها، وطرق جديدة لربط شمال إسرائيل بجنوبها مروراً من الضفة، وأخرى لربط المستوطنات ببعضها البعض، وطرق ثالثة لربطها بإسرائيل.
وقال الخبير في شؤون الاستيطان خليل التوفكجي، لـ”الشرق، إن “إسرائيل تعمل على رسم حدودها في قلب الضفة الغربية”، مشيراً إلى أن مشاريع الضم الاستيطاني المتسارعة تهدف إلى ضم أراضي الضفة الغربية.
ضغوط على النظام السياسي
مع انتهاء الحرب، تكثفت الضغوط الإسرائيلية والغربية على السلطة الفلسطينية لإحداث تغيرات تؤهلها للعب دور سياسي مستقبلي خاصة في قطاع غزة.
أولى هذه الضغوط هي إجبارها على وقف دفع رواتب الأسرى في السجون الإسرائيلية، وإحداث تغيير في المناهج التعليمية، وإزالة التعبيرات التي ترى فيها إسرائيل تحريضاً عليها.
وتعرضت السلطة الفلسطينية لحصار مالي إسرائيلي، أوقفت بموجبه الحكومة الإسرائيلية، منذ مايو، الإيرادات الجمركية التي تجمعها عن السلع الواردة إلى فلسطين، والتي تشكل حوالي 70% من موازنة السلطة. وأحدث هذا الإجراء أزمة مالية حادة جعلها غير قادرة على دفع رواتب موظفيها.
السلطة تستجيب
وأجرت السلطة العديد من التغيرات المطلوبة، خاصة من جانب المجتمع الدولي، مثل وقف رواتب الأسرى، وإزالة تعبيرات من المنهاج التعليمي اعتبرتها إسرائيل “مصدراً للتحريض”.
وتمثل التغيير الأكبر في استحداث منصب نائب رئيس للسلطة الفلسطينية، وتعيين المسؤول البارز في حركة “فتح” حسين الشيخ في المنصب، وإصدار إعلان دستوري ينص على حلوله محل الرئيس، حال شغور المنصب.
وأجرت الحكومة تغييرات في العديد من النظم المالية والإدارية والقضائية، إذ جرى تغيير قانون الانتخابات، وشكلت لجنة للعمل على صياغة دستور يحدد قواعد وشروط الانتخابات العامة، إلى جانب تحديد هوية الدولة، بما يتناسب مع المطالب الدولية.
انسداد الأفق السياسي
ورغم هذه التغيرات، بقي الأفق السياسي مسدوداً، فالحكومة الإسرائيلية لا تخفي مساعيها لضم الضفة الغربية وحصر الفلسطينيين في كانتونات سكانية مقطعة الأوصال، مغلقة خلف حواجز عسكرية وبوابات بلغ عددها حوالي ألف حاجز وبوابة، تغلق وتفتح حسب الأوامر العسكرية.
وفيما تعمل الحكومة الإسرائيلية بدأب على حسم مصير الضفة الغربية، يبقى مصير قطاع غزة معلقاً ومرتبطاً بأجندات إسرائيلية وأميركية وإقليمية.
ويرى العديد من المراقبين أن فرص إنهاء الاحتلال وإعادة الإعمار والاستقرار في غزة بعيدة المنال ومرتبطة بعملية سياسية مستبعدة في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية.
