اخبار تركيا

مع اقتراب انتهاء المهلة الممنوحة لميليشيات “قسد” من أجل تنفيذ اتفاق 10 مارس ودمجها في مؤسسات الدولة السورية، تجد تركيا نفسها أمام مفترق طرق حاسم في شمال شرق سوريا. فبينما تفضّل أنقرة استمرار المسار السياسي وتجنّب الخيار العسكري، تتزايد مؤشرات نفاد الصبر التركي إزاء ما تصفه بـ”مماطلة قسد”، الأمر الذي يفتح الباب أمام تساؤلات حول طبيعة الخطوة المقبلة بين الصبر الإستراتيجي والحسم الميداني.

وفي مقال له على موقع “الجزيرة نت”، قال الكاتب والباحث في الشؤون التركية، سامي العركي إنه لا يمكن فصل المواجهات المسلحة التي اندلعت مساء الاثنين 22 ديسمبر/كانون الأول في مدينة حلب بين القوات الحكومية السورية وميليشيات “YPG”، عن زيارة الوفد التركي رفيع المستوى دمشق ولقائه الرئيس أحمد الشرع.

وأضاف أن العنوان الأبرز للزيارة كان ملف قوات سوريا الديمقراطية، فمع قرب انتهاء المدة الممنوحة لـ”قسد” لتفكيك بنيتها العسكرية، وتنفيذ اتفاق 10 مارس/آذار، تثور التكهنات بشأن السيناريوهات المتوقعة مع انقضاء تلك المهلة: هل تتجه الأزمة صوب التفكيك بموافقة “قسد” على تنفيذ الاتفاق المبرم مع دمشق، والاندماج في الجيش السوري؟ أم إن مسار الجمود سيظل مهيمنا على الأزمة ؟ وما هي الخيارات التركية المتاحة آنذاك؟ وما مدى تأثير ذلك على عملية السلام الداخلية المعروفة باسم “تركيا خالية من الإرهاب”؟

وأشار إلى أن الاتفاق يتكون من ثماني نقاط يشكل معظمها مجموعة من المبادئ والحقوق الأساسية المتفق عليها بين الجميع، مثل ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية، والتأكيد على ضمان الدولة حقوق المجتمع الكردي في المواطنة والمكاسب الدستورية. إضافة إلى ضمان عودة المهجرين إلى بلداتهم وقراهم، وهو ما تم العمل عليه فعلا بعودة مئات النازحين الأكراد إلى قراهم في عفرين وغيرها.

وفيما يلي تتمة المقال:

لكن تبقى النقطة الرابعة في الاتفاق إشكالية لم تحل حتى الآن ولا يبدو في الأفق القريب طريق إلى تطبيقها. فالمادة تنص على: ” دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز”.وبحسب المادة الثامنة والأخيرة من الاتفاق فإنه كان يفترض أن “تسعى اللجان التنفيذية إلى تطبيق الاتفاق بما لا يتجاوز نهاية العام الحالي”.

هذا الاتفاق مثل بصيص النور منذ توقيعه لإمكانية حل أزمة شمال شرق سوريا سلميا دون اللجوء إلى الحل العسكري، لكن حتى الآن، ومع قرب انقضاء العام الحالي 2025، فإنه لا يبدو في الأفق أي مؤشرات على قرب هذا الدمج المشار إليه في الاتفاق. بل إن هناك رغبة من قبل قوات سوريا الديمقراطية في مد أمد المهلة الممنوحة حتى مارس/آذار من العام المقبل 2026. لكن لا يبدو أن الحكومة السورية منفتحة حتى الآن على ذلك المقترح، خاصة مع عدم وجود أي تطورات ميدانية ملحوظة قد تبرر هذا التأجيل، الذي تفسره دمشق بأنه مماطلة من قبل “قسد”، ومحاولة لكسب مزيد من الوقت.

ومن يتابع تصريحات قادة التنظيم مثل مظلوم عبدي، وإلهام عمر، وغيرهما خلال الأشهر الماضية، يدرك على الفور أن التنظيم يريد تفريغ الاتفاق من مضمونه، من خلال الحديث المتكرر عن “اللامركزية” والتي تعد غطاء للتجزئة الفعلية، أو ما يمكن أن نطلق عليه “فدرلة” سوريا عبر إقرار الحكم الذاتي لإقليم شمال شرق سوريا على غرار إقليم كردستان العراق، وذلك رغم الخلاف الديمغرافي بين الحالتين. فعلى عكس إقليم كردستان العراق، لا يمثل الأكراد أكثر من 30% من المكونات العرقية في شمال سوريا، فيما يمثل العرب أغلبية تلك المكونات.

من يدعم “قسد”؟

لا يمكن الحديث عن مماطلة “قسد” في تنفيذ اتفاق مارس/آذار دون التطرق إلى الجهات التي تدعم التنظيم إقليميا ودوليا للتنصل من الاستحقاقات الواجبة بحقه، وفق الاتفاق مع الحكومة السورية.

أولا:الولايات المتحدة التي تعد الكفيل والراعي الرسمي لتلك القوات، فهي التي أسستها عام 2015 لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وهي التي تمدها بالمال والسلاح بشكل ثابت، وبالتالي فهي من بيدها تفكيك هذه القوات متى أرادت.
ثانيا:إسرائيل.. حيث أكد الوزير هاكان فيدان، في المؤتمر الصحفي الذي جمعه بنظيره السوري، أسعد الشيباني، أن تنسيق “قسد” مع إسرائيل يشكل عائقا كبيرا في المباحثات بين التنظيم ودمشق.
ثالثا:أطراف إقليمية ودولية تعمل جاهدة على إفشال مشروع السلام الداخلي في تركيا، وإنجاح مشروع التقسيم في سوريا لإحداث فوضى جيوستراتيجية تحرم كلا من سوريا وتركيا من الثمرات الإستراتيجية المتوقعة من إسقاط نظام البعث الطائفي.

وفي هذا الصدد لا يمكن تجاهل ما يشهده الإقليم من تحركات لبناء ما يمكن أن نسميه: “تحالف الأقليات” بمعناه السياسي وليس الطائفي، حيث زار مؤخرا وفد من قوات “قسد” لبنان، والتقى قيادات حزب الله لبحث التعاون المشترك! كما أن التعاون داخل سوريا بين “قسد” والتيارات الانفصالية في السويداء ومنطقة الساحل معروف للجميع.

الخيارات التركية

كان من المتوقع أن يمثل سقوط نظام البعث الطائفي، بداية فعلية وجدية لإنهاء خطر الانفصال في سوريا، والذي سيتسبب حال حدوثه في تصدعات هائلة في جدار الأمن القومي التركي. لكن وبعد مرور أكثر من عام على رحيل بشار الأسد ونظامه، فإن الأوضاع تبدو أنها تسير صوب التعقيد مرة أخرى في ظل مماطلة قوات “قسد” في تنفيذ اتفاق مارس/آذار؛ طمعا في تغيير الأوضاع داخل الولايات المتحدة ومجيء إدارة أخرى تتماهى مع مطالبهم الانفصالية، وخاصة من جانب الديمقراطيين.

ومن تابع المؤتمر الصحفي الذي جمع الشيباني وفيدان مؤخرا في دمشق، يجد أنهما اتفقا على توصيف أداء “قسد” بـ”المماطلة”. وفي حوار متلفز سابق لزيارة سوريا قال فيدان: “قسد تحاول كسب الوقت، ونحن لا نرغب في اللجوء مجددا إلى الوسائل العسكرية، لكن على قسد أن تدرك أن صبر الأطراف المعنية بدأ ينفد”.

تركيا تدرك أن إضاعة فرصة وجود الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، دون حسم ملف قوات “قسد” سيكلفها الكثير على المستوى الإستراتيجي، وقد لا تواتيها تلك الفرصة مرة أخرى. لكنها من جانب آخر تدرك أن القرار في واشنطن ليس على نفس المستوى من التوافق، فمن الواضح أن ثمة من يريد الإبقاء على تنظيم حزب العمال بجميع تجلياته وفروعه خاصة في سوريا وشمال العراق.

وهنا ينبغي الإشارة إلى الضغوط الإسرائيلية التي تمارس في نفس الاتجاه لإضعاف تركيا وسوريا إستراتيجيا في المنطقة. كما لا يمكن إغفال السياسات الأوروبية المضطربة في هذا الملف، حيث لا تزال بعض العواصم تحتضن أنصار التنظيم، رغم خطابها الإيجابي تجاه أنقرة على خلفية التهديدات الروسية.

وعلى الجهة المقابلة فإن الحل العسكري يحمل في طياته مخاطر بالنسبة إلى عملية السلام الداخلية. كما أن انخراط تركيا في عملية عسكرية ضد التنظيم في سوريا، يمكن أن يؤدي إلى انعكاسات سلبية على مسار “تركيا خالية من الإرهاب” خاصة في ظل وجود تيار واضح داخل حزب المشاركة الشعبية والديمقراطية DEM “الكردي” يريد إفساد العملية.

كما تدرك أنقرة أن أي تحركات عسكرية تركية داخل سوريا الآن لا بد أن تحظى بدعم من دمشق، والتي يبدو أنها لم تحسم قرار المواجهة العسكرية ضد “قسد” حتى الآن.

التدخل الإسرائيلي

كذلك فإن تركيا يبدو أنها تتحسب لأي تحركات إسرائيلية لخلط الأوراق في شمال شرق سوريا، في ظل سعيها الدؤوب إلى إلحاق الضرر بركائز الأمن القومي في كل من سوريا وتركيا.

هنا تجدر الإشارة إلى التحركات الإسرائيلية لتشكيل بنى أمنية جديدة في الشرق الأوسط من خلال تحالفات ذات أبعاد إستراتيجية. حيث استضافت إسرائيل الاثنين 22 ديسمبر/كانون الأول اجتماعا ثلاثيا ضم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ونظيره اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، ورئيس قبرص الجنوبية، نيكوس خريستودوليدس.

وفي الاجتماع استهدف نتنياهو، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دون ذكره صراحة بقوله: “إلى أولئك الذين يتوهمون إقامة إمبراطوريات والسيطرة على بلادنا، أقول: انسوا الأمر.. لن يحدث.. لا تفكروا فيه حتى”. ومن هنا فليس من المتوقع أن تصمت تل أبيب إزاء أي تحركات عسكرية جادة للقضاء على تنظيم “قسد”.

رسالة التنظيم

لم تكن الأحداث التي افتعلتها وحدات الحماية الكردية في حيي الأشرفية والشيخ مقصود في حلب، تزامنا مع زيارة المسؤولين الأتراك رفيعي المستوى، فيدان وغولر وقالن، عشوائية بل مرتبة ومتعمدة. فهي رسالة من “قسد” بعدم قبول تنفيذ اتفاق مارس/آذار، ومن ثم الاندماج في الجيش الحكومي أفرادا وليس كتلا كما تريد.

كما أنها محاولة لخلط الأوراق ودفع دمشق إلى الانخراط في ردود أفعال غير محسوبة على غرار ما حدث في السويداء قبل عدة أشهر. لذا كان قرار الجيش الحكومي الاكتفاء حتى الآن بإسكات مصادر النيران وعدم اللجوء إلى توسيع رد الفعل.

نهاية التنظيم

قبل الحديث عن مستقبل تنظيم “قسد”، فإنه تجدر الإشارة إلى أن تنظيم حزب العمال PKK ما كان ليقبل بقرار زعيمه، عبدالله أوجلان، حل الحزب وإلقاء السلاح لولا الهزائم الضخمة التي تعرض لها داخل تركيا وسوريا والعراق منذ استئناف أنقرة المواجهات العسكرية في صيف 2015.

واليوم قد يحتاج تنظيم “قسد” إلى المرور بنفس التجربة، حتى يوقن بأن مشاريعه الانفصالية لم تعد ذات جدوى. فالتنظيم وبدعم دولي وإقليمي لا يزال تراوده أحلام الانفصال في ظل حالة السيولة التي تمر بها الدولة السورية، خاصة مع سيطرة التيار “القنديلي” الانفصالي على صنع القرار داخله.

لكن التحدي الحقيقي أمام صانع القرار في أنقرة ودمشق معا، ليس في الحسم العسكري بحد ذاته، لكن في قدرتهما على تنفيذه دون السماح بتوسع دائرة المواجهات مع مكونات مذهبية أخرى قد يتم توظيفها في المعركة. وأيضا التحسب للفوضى التي قد تصطنعها إسرائيل، للحيلولة دون نهاية التنظيم.

شاركها.