اخبار تركيا
تناول مقال للكاتب والسياسي التركي ياسين أقطاي، الذكرى الحزينة لرحيل شاعر النشيد الوطني التركي محمد عاكف أرصوي، مستعرضاً أبعاد شخصيته الفكرية والوطنية، ومعاناته في سنواته الأخيرة بين النفي والتجاهل، رغم كونه أحد أبرز رموز الكفاح والهوية.
يسلط أقطاي الضوء على موقفه الرافض للفرقة والعصبية القومية، وإيمانه العميق بوحدة الأمة، كما يتوقف عند رؤيته النقدية لما أسماه «جيل عاصم»، ذلك الجيل المتحمس الذي امتلك الشجاعة والغيرة لكنه افتقر في نظره إلى النضج العلمي والمنهجي اللازم لبناء نهضة حقيقية.
ويبرز الكاتب كيف تحوّل عاكف، رغم محاصرته وتهميشه، إلى رمز خالد للمقاومة الأخلاقية والفكرية، وكيف ظل مؤمناً بأن المستقبل سيحمل صحوة تعيد للأمة توازنها وهويتها، وأن المواقد التي أشعلها لن تنطفئ مهما اشتدت العواصف. وفيما يلي نص المقال الذي نشرته صحيفة يني شفق:
السابع والعشرون من ديسمبر؛ هو يومٌ من أيام الله، لكنه يحمل في وجداننا خصوصية حزينة، فهو ذكرى رحيل شاعر النشيد الوطني التركي “محمد عاكف أرصوي”. فبعد أحد عشر عاماً قضاها في المنفى، عاد عاكف إلى إسطنبول ليوارى في ثرى وطنه بعد صراعه مع مرض عضال، ليلبي نداء ربه بعد فترة وجيزة من وصوله. وحين عاد بعد تلك السنين الطوال، وجد وطنه في ظروف أشد قسوة مما تركه عليه، ولكن رغم ذلك لم يتسلل اليأس إلى قلبه المؤمن بهذا الوطن؛ فالمكان الذي اصطبغ بصبغة الإسلام يوماً لا يمكن أن يؤول إلى الكفر أبداً. وهذا هو اليقين الذي صاغه في “نشيد الاستقلال” في أحلك الأيام، حين قال: لن تخبو الراية الحمراء التي ترفرفُ في فجرنا، قبل أن ينطفئ آخر موقد مشتعل فوق أرض وطني”.
مهما تبدلت السياسات، ومهما تعاقب الحكام، فإن تلك “المواقد الأخيرة” لن تنطفئ أبداً، وسيظل يخرج من أصلابها رجال يحملون لواء القضية، ويذودون عن هوية هذا الوطن الإسلامية وقيمه الأصيلة. وهذا هو بالضبط ما حدث؛ فقد قضى شاعر الاستقلال أشهره الأخيرة في وطنه غريباً، يُنظر إليه كعدو للنظام، وتلاحقه العيون في كل خطوة، وتُرصد جميع اتصالاته ولقاءاته، وتُرفع بشأنه تقارير استخباراتية على الدوام.
لقد صُور عاكف كـ “تهديد” للدولة، وهو الرجل الذي خطّ بيمينه بيان آخر نضال وطني جعل من هذه الأرض وطناً. إن كان للخيانة مكان، فمحمد عاكف هو أبعد الناس عنها؛ بل إن العقلية التي وصمته بالغرابة، أو اعتبرته تهديداً أو عدواً، هي في الحقيقة العقلية الغريبة عن هذه الأمة والمهددة لكيانها. ذلك أن “الكفاح الوطني” ما كان ليقوم ويستمر لولا الوعي بالقضية الذي مثَّلَه عاكف.
ورغم أنه كان ألباني الأصل، إلا أنه عارض بشدة النزعات القومية التي ظهرت بين أبناء قومه وأدت إلى الانفصال عن الدولة العثمانية؛ فالدولة والبلاد والوطن بالنسبة له كانت هي “الدولة العثمانية”. وكان يرى في كل من يسعى للانفصال عن هذا الوطن حتى لو كان من قومه عدواً له. لذا، جهر بصرخته المدوية في وجه أولئك الذين خرجوا على الأمة التي يمثلها متذرعين بأصولهم الألبانية، قائلاً:
“لن يدخل العدو أمةً ما لم تتسلل إليها الفرقة.. ولن تكسر المدافع قلوباً متوحدة تنبض بالوفاء. أفي الإسلام ” أعراق وعصبية قبلية؟ محال هذا الضلال! إن النبي يرفض كل فكرٍ يقوم على العصبية. وإن أعظم أعداء روح النبي هي الانقسام.. تَبَّت يدا ذلك الأفاك الذي دسَّها في روع الإسلام”
إن هذه الكلمات وحدها كفيلة بشرح ما كان يدور في البلاد آنذاك، كما تكفي للإشارة إلى كل المراجع التي ينبغي لنا اليوم أن نستند إليها لتحقيق “الوحدة الوطنية والإخاء”.
وبغض النظر عن نوايا من قاموا بتعقبه عند عودته إلى وطنه، ظلت المواقد في أرجاء الوطن متقدة لم تنطفئ، ولم يفلح أحد في إخمادها. إن حراس تلك المواقد وخريجيها هم من وقفوا مع عاكف على الرغم من كل الضغوط الموجهة ضده. وحين نُقل جثمانه إلى المسجد كأنه غريب لا يعرفه أحد، سُرعان ما فُطِن إلى هويته بمحض الصدفة، وما هي إلا لحظات حتى انتشر الخبر بسرعة البرق، لتُشيّع جنازته بحشد مهيب غير متوقع، تصدره طلاب العلم والشباب. وحتى هذا الاحتفاء الشعبي العفوي سُجل في التقارير الرسمية آنذاك بوصفه “رد فعل رجعياً”، بل وفُتحت التحقيقات بحق من بادروا بتنظيم ذلك الوداع المهيب.
لقد وقف «جيل عاصم» إلى جانب عاكف. وكما حمى هذا الجيل حياض الوطن في “جناق قلعة”، لم يترك جنازة عاكف ولا قضيته بلا نصير. غير أن جيل عاصم، منذ ذلك الحين ظل كما رسمه عاكف في ديوانه “صفحات”. فرغم القيمة الكبيرة التي أضفاها عليه، إلا أن عاكف كان يرى أن هذا الجيل لم يصل بعد إلى “النضج” المنشود. فرغم قيم الشجاعة، والعاطفة الجياشة، والغيرة على الحق، والإقدام بلا حسابات وهي قيم إيجابية بلا شك إلا أن عاكف كان يعتقد أن هذه الشخصية لا تزال تفتقر إلى بعض مقومات “الجيل المؤسس” الذي نحتاج إليه اليوم.
إنَّ خصال “جيل عاصم” تكفي لتجعله بطلاً مغواراً لا يُشق له غبار في ساحات الوغى والمواجهة المباشرة مع العدو؛ بيد أن عاكف يرى أن هذا الجيل بحاجة ماسة إلى تعليم رصين، وتزود بالعلم والعقل والإستراتيجية. ورغم أن ردود الفعل العفوية والهبات الوطنية الصادقة التي أبداها جيل عاصم ضد الساقطين الذين غرقوا في المجون إبان احتلال “بورصة”، تمنح المرء شعوراً بالثقة والطمأنينة، إلا أن هذه العاطفية وردات الفعل لا تكفي وحدها. لذا، وجب على “جيل عاصم” أن يضرب في الأرض إن لزم الأمر، فينهل من علوم الغرب وتقنياته، ويكتسب العلوم الإسلامية بكافة فروعها وعلى أتم وجه، وفي الوقت ذاته، عليه أن يملك زمام نفسه، فلا ينساق وراء الاندفاعات الفجائية، ولا يتحرك بناءً على أنصاف الحقائق أو الظنون، فلا يُقدِم على أمرٍ حتى يستبين أصله وحقيقته.
ولهذا كان “جيل عاصم” في نظر عاكف جيلاً لم يكتمل نضجه بعد. بل إنه حين عاد إلى تركيا، وجد ظروفاً تهدف إلى استئصال هذا الجيل من جذوره لا مجرد عرقلة اكتماله. ورغم ذلك، فإن إصرار عاكف على العودة واختياره إسطنبول لتكون مستقره الأبدي، لم يكن إلا تعبيراً عن إيمانه العميق بأن الوضع الراهن لن يستمر إلى الأبد.
وفي انحيازه إلى محمد عبده في الجدل المنهجي بين “محمد عبده” و”جمال الدين الأفغاني”، يتجلّى وعيه بأن هذا الأمل يقتضي صبراً جميلاً؛ فحين قال: “أنا أيضاً أريد ثورة، (تغييراً)، ولكن على طريقة عبده”، لم يكن يقصد تبني كافة آراء عبده، بل كان يشير إلى “منهج التغيير” القائم على إعطاء الأولوية للتربية الفردية والاجتماعية. ومن المحزن حقاً أن نجد أنفسنا مضطرين للتوضيح بأن قامةً كعاكف لم تكن لتتبع أحداً اتباعاً أعمى، ولم يكن مجرد مقلدٍ لعبده أو للأفغاني. ولا شك أن لعاكف أخطاءه، لكن التوقف عند تلك الأخطاء بحد ذاته يحمل من القيمة ما يكفي لأن يجعلها مرآة نراجع فيها أنفسنا.
رحمه الله، وجعل مثواه الجنة.
