يدرس الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على موانئ تركية يشتبه في أنها توفر “منفذاً خلفياً” لنقل الوقود الروسي إلى أوروبا، بحسب ما نقلته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية عن مسؤولين.
وأدت سلسلة من العقوبات الغربية المفروضة منذ اندلاع الحرب في عام 2022 إلى تعطيل آلة الطاقة الروسية، لكن النفط لا يزال يتدفق، ويعبر جزء كبير منه عبر تركيا.
وتُعد تركيا أكبر مشترٍ للمنتجات النفطية الروسية، مثل الديزل وزيت الوقود، وأحد أكبر مستوردي الخام الروسي بعد الصين والهند. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد طلب من تركيا والصين وقف هذه التجارة، وفرض رسوماً جمركية على الهند بسبب مشترياتها.
وتفرغ ناقلات نفط، عدة مرات شهرياً، عشرات الآلاف من براميل المنتجات النفطية في محطة تخزين تركية تقع في مدينة مرسين الساحلية.
وتأتي الغالبية العظمى من هذه السفن مباشرة من روسيا. وفي مرات عدة من كل شهر أيضاً، تغادر ناقلات من المنشأة ذاتها محملة بكميات مماثلة متجهة إلى دول الاتحاد الأوروبي.
وقد برز هذا النمط في ظل العقوبات الغربية التي تهدف لخنق تدفق عائدات النفط التي تمول الغزو الروسي لأوكرانيا.
واليوم، يزيد الاتحاد الأوروبي من تدقيقه في هذه المحطة وغيرها من المنشآت المماثلة، ضمن جهد أوسع لزيادة الضغط على روسيا، إذ تُعد صادرات الطاقة شريان الحياة للاقتصاد الروسي.
وجهة للسفن الروسية
وفي فبراير 2023، عندما حظر الاتحاد الأوروبي شحنات المنتجات النفطية من الموانئ الروسية إلى دوله الأعضاء، اتجهت تلك الناقلات بكثافة نحو تركيا.
وقبل فرض العقوبات، لم تكن محطة التخزين في مرسين، وهي شركة غير معروفة نسبياً تُدعى “توركيس إنرجي” (Turkis Enerji)، تشهد نشاطاً يُذكر في حركة السفن.
وبعد أيام من دخول العقوبات حيز التنفيذ، استقبلت المحطة أول شحنة من روسيا منذ ما لا يقل عن 5 سنوات، وفقاً لبيانات شركة تتبع السفن “كبلر” (Kpler).
وخلال العام الحالي، استقبلت “توركيس إنرجي” نحو 6.5 مليون برميل من المنتجات النفطية، معظمها من الديزل، جاء 5.5 مليون برميل منها من روسيا بقيمة تقارب 500 مليون دولار، بحسب بيانات “كبلر” التي حللتها “وول ستريت جورنال” ومركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف (CREA) في العاصمة الفنلندية هلسنكي.
وخلال الفترة نفسها، صدرت المنشأة 4.4 مليون برميل إلى الاتحاد الأوروبي، أي أكثر من 4 أضعاف الكميات التي استوردتها من مصادر غير روسية، ما يعني أن شحناتها إلى التكتل الأوروبي احتوت على الأرجح على منتجات روسية، وفقاً لمحللين.
في المقابل، يقول طوفان أيريك، المدير العام لشركة “توركيس إنرجي” وأحد مالكيها، إن منشأته لم تخزن أبداً وقوداً مشحوناً من روسيا.
وعندما سُئل عن 5.5 مليون برميل من الوقود التي تشير بيانات “كبلر” إلى وصولها من روسيا إلى مراسي الشركة في خليج مرسين هذا العام، قال أيريك إنه لا يستطيع مناقشة تفاصيل عن عملاء الشركة.
ومنذ دخول العقوبات حيز التنفيذ، شحنت المصافي الروسية ديزل وغيره من أنواع الوقود بما يقارب 50 مليار دولار إلى تركيا. وشكلت هذه الصادرات نحو 10% من إيرادات روسيا النفطية، و7% من إجمالي إيراداتها من الطاقة خلال تلك الفترة، بحسب مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف الذي يتتبع تدفقات الطاقة الروسية.
وفي المقابل، تضاعفت شحنات الوقود من المحطات التركية إلى الاتحاد الأوروبي لأكثر من الضعف لتصل إلى نحو 24 مليار دولار خلال الفترة نفسها، وفقاً لتحليل المركز.
10 مليارات دولار من النفط
وعلى بحر مرمرة، وهو بحر داخلي يقع بالكامل داخل تركيا ويُعدّ حلقة الوصل بين البحر الأسود وبحر إيجه عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، أظهرت بيانات “كبلر” أن محطة تخزين هناك مملوكة لشركة توزيع النفط التركية “أوبت” (Opet) أصبحت أكثر نقطة تداول ازدحاماً في العالم للمنتجات النفطية الروسية المكررة من حيث عدد الشحنات.
وقد مر عبرها وقود روسي مكرر يُقدر بنحو 10 مليارات دولار منذ بدء العقوبات، وكان من بين أبرز المشترين شركات مقرها الاتحاد الأوروبي.
ودقق محققو مكافحة الاحتيال في أوروبا في بيانات التجارة، لكنهم لم يتمكنوا من إثبات أن الوقود الروسي الذي يدخل شبكة محطات التخزين في تركيا يغادر لاحقاً إلى الاتحاد الأوروبي، ما يجعل تطبيق العقوبات أمراً صعباً.
وقال مسؤولون إن تركيا لم تسمح بإجراء تحقيقات معمقة في تدفق المنتجات عبر محطاتها.
وقال بابلو تيدو موروا، رئيس وحدة التجارة في مكتب مكافحة الاحتيال بالاتحاد الأوروبي، الذي يحقق في تدفقات الطاقة الروسية: “سيحتاج المحققون إلى تتبع تدفق المنتجات النفطية عبر خزانات التخزين المختلفة، وهو ما يتطلب بطبيعة الحال موارد كبيرة وتنسيقاً واسعاً من الجانب التركي”.
وقالت “وول ستريت جورنال” إن وزراتي الخارجية والتجارة التركيتين رفضتا التعليق.
ولم تؤيد تركيا العقوبات الغربية على موسكو، ما يعني أن شراء الطاقة الروسية لا يخالف القانون التركي. وسعت الحكومة إلى الحفاظ على علاقاتها مع الكرملين، رغم تزويدها أوكرانيا بطائرات مُسيرة وأسلحة أخرى تستخدمها في الحرب ضد روسيا.
وقالت “أوبت” إنها تقدم خدمات تخزين لعملائها ولا تمتلك المنتجات التي تُشحن إلى منشآتها أو تُنقل منها.
وأضافت متحدثة باسم الشركة: “لا تتعامل أوبت مع أطراف خاضعة للعقوبات، ولا تمارس أي نشاط من شأنه أن يعرضها للعقوبات”.
جهود متعثرة
ويرى محللون أن استهداف الموانئ نفسها قد يسهل تطبيق العقوبات، لكنه ينطوي على خطر إغضاب تركيا، الحليف في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وقد عطلت محاولات الغرب خنق صادرات الطاقة الروسية، بما في ذلك فرض سقف للأسعار والعقوبات على ما يُعرف بأسطول الظل التابع للكرملين، الاقتصاد الروسي، لكنها لم توقف آلة الحرب.
وفي 15 ديسمبر، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على تاجري نفط متنافسين اتهمهما بلعب دور رئيسي في سوق الطاقة الروسية السرية.
كما فرضت إدارة ترمب هذا الخريف عقوبات على أكبر شركتي نفط في روسيا، في إطار مسعى الرئيس الأميركي المتسارع لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
ووافق الاتحاد الأوروبي على إنهاء مشترياته من الغاز الطبيعي المسال الروسي بحلول نهاية عام 2026، ووقف شراء الغاز الروسي المنقول عبر الأنابيب بحلول نوفمبر 2027.
ومن المقرر أن تدخل واحدة من أكبر العقوبات الأوروبية على قطاع الطاقة الروسي حيز التنفيذ في 21 يناير المقبل، عندما يبدأ سريان حظر استيراد المنتجات النفطية المكررة من الخام الروسي في دول أخرى، لا سيما الهند والصين وتركيا.
ويقول مسؤولون أوروبيون إن ذلك سيُلقي عبء الإثبات على المستوردين لإظهار أن شحناتهم غير مكررة من نفط روسي.
غير أن قدرة التكتل على تطبيق هذا الحظر ستتأثر بشبكة محطات التخزين والوسطاء والمصافي التي تحجب مصدر الوقود المتدفق إلى القارة.
وفي تركيا، تتراوح الشركات المنخرطة في تجارة النفط الروسي بين كيانات غامضة مثل “توركيس إنرجي”، وأخرى من أكبر الشركات في البلاد، بينها مجموعة “كوج” (Koç) العائلية التي تمتلك 50% من “أوبت”. وتُعد “كوج” الشركة التركية الوحيدة المدرجة في قائمة “فورتشن جلوبال 500”.
كما كانت تركيا مشترياً كبيراً للخام الروسي، إلى جانب المنتجات المكررة التي تمر عبر محطات التخزين لديها. واستُخدمت وارداتها الضخمة من المنتجات النفطية الروسية أيضاً لتلبية الطلب المحلي.
ويقول محللون إن ذلك أتاح للمصافي التركية، التي تعتمد بدرجة كبيرة على الخام الروسي، تصدير كميات أكبر إلى الاتحاد الأوروبي. وكان ترمب قد ضغط على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لوقف شراء النفط الروسي خلال زيارة إلى البيت الأبيض في سبتمبر الماضي.
هامش ربح مرتفع
ويشير محللون إلى أن الشركات التي تنقل النفط الروسي حول العالم تستغل هامش ربح يتراوح بين 10 و20% بين أسعار المنتجات النفطية الخارجة من روسيا، التي تضطر موسكو لبيعها بسعر منخفض، والأسعار السائدة في الأسواق الغربية.
وغالباً ما تُدار هذه الصفقات عبر شبكة متغيرة من الوسطاء، الذين يبدون استعداداً لتحمل مخاطر تجارة النفط الروسي في ظل العقوبات الغربية، بحسب “وول ستريت جورنال”. وقد فرضت الحكومات عقوبات على عشرات من هذه الكيانات، لكن كيانات جديدة ظهرت متحدية الجهود الرامية إلى تعطيل هذه التجارة.
وتُعد الإجراءات الأكثر فاعلية هي تلك التي تستهدف المنشآت التي تتعامل مع المنتجات النفطية الروسية. فعندما فرض الاتحاد الأوروبي هذا العام عقوبات على مصفاة “فادينار” في الهند، المملوكة بنسبة 49% لشركة “لوك أويل” (Lukoil) الروسية، توقفت شحناتها إلى التكتل تماماً.
وبدلاً من ذلك، بدأت “فادينار” إرسال شحنات إلى أسواق أقل ربحية، بما في ذلك منشآت تركية تخضع حالياً لتدقيق الاتحاد الأوروبي.
ووفقاً لـ”كبلر”، قامت سفينة خاضعة للعقوبات الشهر الماضي بتفريغ 36 ألف برميل من الديزل من “فادينار” في منصة بحرية أخرى قبالة مرسين.
وفي سلسلة صفقات حديثة أخرى، أظهرت بيانات “كبلر” أن ناقلة نفط ترفع العلم التركي شحنت ما يقرب من 20 مليون دولار من الديزل من ميناء شيشخاريس الروسي على البحر الأسود إلى محطة “أوبت” في مرمرة، ووصلت في 29 أكتوبر.
وفي 4 نوفمبر، غادرت السفينة نفسها محملة بكمية مماثلة من المنتجات المكررة إلى مصفاة في كورنث باليونان، مملوكة لمجموعة “موتور أويل”.
وقالت المتحدثة باسم “أوبت”: “تم تفريغ الشحنة في محطتنا حصراً في إطار خدمة تخزين لأحد عملائنا، ثم نُقلت لاحقاً إلى طرف ثالث في التاريخ المحدد”.
وأشارت مجموعة “كوج” إلى بيان “أوبت” ورفضت الإدلاء بمزيد من التعليقات. وقالت الصحيفة إن مجموعة “أوزتورك”، التي تمتلك النصف الآخر من “أوبت”، لم ترد على طلبات التعليق.
“إجراءات أكثر صرامة”
ووفقاً لـ”كبلر”، اشترت مجموعة “موتور أويل” الشحنة. وتُعد الشركة اليونانية، وهي واحدة من أكبر المصافي في جنوب أوروبا، أكبر مشترٍ منفرد للمنتجات النفطية التركية في القارة خلال السنوات الأخيرة، بعدما زادت مشترياتها بشكل حاد منذ بدء الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في فبراير 2022. وقبل ذلك، كانت من أبرز وجهات صادرات الوقود الروسي في أوروبا.
وقالت الشركة: “لا تشتري موتور أويل هيلاس النفط أو المنتجات الروسية، ولا تعالجها أو تتاجر بها، وجميع وارداتها معتمدة على أنها من مصادر غير خاضعة للعقوبات”.
وقالت “وول ستريت جورنال ” إن “موتور أويل” لم ترد على طلب للتعليق بشأن الجهة التي تصدر هذه الشهادات.
ويرى محللون أن هناك حاجة إلى إجراءات أكثر صرامة لإحداث تأثير ملموس في الطلب العالمي على النفط الروسي، بما في ذلك فرض وقف على واردات الديزل وغيره من أنواع الوقود القادمة من تركيا.
وقال مارتن فلاديميروف، المحلل في مركز دراسة الديمقراطية البحثي في بلغاريا، الذي يتابع شحنات الطاقة الروسية: “الطريقة الوحيدة المستدامة لتحقيق ذلك هي حظر استيراد المنتجات النفطية من الدول التي تستخدم النفط الروسي”.
وأضاف أن أوروبا “تحتاج أيضاً إلى تشديد الرقابة على مستوى الدول الأعضاء، ووجود هيئة أوروبية موحدة تتولى فعلياً التحقيق في هذه القضايا”.
