لمى قنوت ورهام قنوت رفاعي

في رسالة نهاية عام 2025، الموجهة للمستثمرين وأصحاب الأسهم التجارية في شركة “بالانتير” للتكنولوجيا، افتخر ألكسندر كارب، الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك، بعوائد وأرباح شركته، وكأنها استحقاق معنوي، وانتصار اقتصادي ثقافي على من يشكك بقدرات شركته، أو ينتقدها، مشيرًا إلى الصوابية في نهج الشركة وقيمها، فما أسماه بـ”البراغماتية التي لا رحمة فيها” الموجودة في ثقافة شركات الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تبقى الأبرز بتفوقها عالميًا، وأكثرها “نهمًا” لتبني الذكاء الاصطناعي، وقدرة على التأقلم مع التغيير الجذري الحاصل في “تدوين حيوات البشر”، في إشارة إلى قدرة الشركة على معالجة معلومات، وبيانات الأفراد، والجماعات، بشكل واسع النطاق، وكأنها ثورة في مفهوم التأريخ البشري.

رأسمالية المراقبة

في الاقتصاد السياسي، يشير مفهوم رأسمالية المراقبة إلى اقتصادِ جمعٍ للبيانات الشخصية من خلال مراقبة حركة وسلوك الناس عبر الإنترنت، وفي العالم الواقعي، وتسليعها، واستغلالها لتحقيق الربح، كشركتي “جوجل” و”ميتا” مثلًا. ومن أبرز المنظرين، من الرجال والنساء، في هذا الإطار، البروفيسورة سوشانا زوبوف، التي قارنت في كتابها “عصر رأسمالية المراقبة” الصادر في عام 2019، تحول شركات تكنولوجيا المراقبة إلى مؤسسات شبيهة بالدولة الاستبدادية والسلطوية، القامعة للإرادة الحرة، حيث تعتمد الشركات على النفعية، وتقمع سيادة الأفراد على ذواتهم، وهو ما تعتبره زوبوف خروجًا، أو تجاوزًا للقيود الأخلاقية، والقانونية، والديمقراطية، للرأسمالية والليبرالية.

تعد رأسمالية المراقبة منظومة تنتهك الخصوصية، ولا تعترف بالإرادة الشخصية، أو الحريات الفردية، ولا تمارس أخلاقيات الموافقة المستنيرة، وعلى الرغم من مستوى وكثافة الجشع الاستخراجي، والسلطوية التي وصلت إليها اليوم هذه المنظومة، فإن رأسمالية المراقبة ليست هجينة أو نموذجًا غير مسبوق، بل امتداد طبيعي للرأسمالية الحديثة التي تطورت إلى حالة من النظم الاقتصادية الليبرالية، والتجارة غير المقيدة العابرة للحدود، ذات القدرة على التأثير في الاقتصادات العالمية، والهياكل السياسية والاجتماعية، وبالرغم من بعض التنظير الليبرالي لضبطها أخلاقيًا وقانونيًا، لا تزال في جوهرها منظومة مظالم اجتماعية وهيمنة، بُنيت بعقلية الاستعلاء الأبيض، والإرث الاستعماري لدول الشمال العالمي، فهي تراكم الثروة والسلطة والامتيازات، وتحصر ملكية الموارد وأدوات الإنتاج في أيدٍ قليلة، وتوسع نفوذها على حساب الأفراد والبيئة والمجتمعات المحلية.

“بالانتير” للتكنولوجيا

مع تضخم وسيولة المعلومات التي يتم استخراجها عبر برمجيات حاسوبية، وتطبيقات إعلامية، ومنصات تجارية، وأنظمة مراقبة استخباراتية كـ”تحالف العيون الخمس” (The Five Eyes) الذي أبلغ عنه إدوارد سنودن على سبيل المثال، نشأت في سوق رأسمالية المراقبة حاجة لنُظم برمجية، ومراكز وحدات معالجة ضخمة قادرة على استيعاب كميات هائلة من البيانات، ومعالجتها، وتحليلها، وتركيبها، وتوليفها بما يخدم مصالح واحتياجات الجهة المُستخرِجة للبيانات، أو شركائها، أو زبائنها، وفي هذا السياق، تأسست شركة “بالانتير” للتكنولوجيا في عام 2003 كشركة أمريكية متخصصة في تحليل البيانات الضخمة لأغراض تجارية، واستخباراتية عسكرية، بُنيت على إيمان مؤسسيها بأن على الولايات المتحدة، وحلفائها، وشركائها “تسخير أحدث القدرات التقنية للدفاع عن أنفسهم” و”الردع المتكامل” و”تحقيق الازدهار”.

تقدم “بالانتير” منتجات مختلفة من برمجيات ونظم تشغيل، أشهرها “غوثام” (Gotham)، المُستخدم من قبل “مجتمع الاستخبارات الأمريكي” (IC) ووزارة الحرب، وهدفه بحسب موقع “بالانتير” تسهيل وتبسيط (mainstreaming) عملية صنع القرار العسكري على الأرض، وتزويد الجنود “بسلسلة قتل تعمل بالذكاء الاصطناعي، تدمج وبشكل سلس ومسؤول بين تحديد الأهداف وربطها بأجهزة التنفيذ المناسبة”، ويُعرف مفهوم “سلسلة القتل” (kill chain) عسكريًا بأنه عملية تحديد الهدف، ومن ثم إرسال القوات، أو توجيه السلاح نحوه، والبدء بالهجوم حتى تدمير الهدف.

إن لغة “بالانتير” هذه نموذج عن ثقافة تطبيع عسكرة البرمجيات، وأتمتة “سلسلة القتل” بأكبر قدر ممكن، وطمس ماهية وأبعاد العنف الممارس تحت شعار الكفاءة التقنية والتقدم التكنولوجي، ففي ساحة القتال “العصرية” كما تصفها “بالانتير”، يصبح القتل والدمار خاصية من خصائص نظام تشغيل، فعندما تصف الشركة برنامجها “غوثام” على أنه “نظام تشغيل لصنع القرار العالمي”، تضع نفسها موضع بنية تحتية ذات سلطة فوق السياسة والقانون والرقابة، فهيمنة الولايات المتحدة وحلفائها، أو ما تسميه “بالانتير” بـ”الأمن والازدهار”، لم يعد موضع نزاع أو تفاوض، بل يتم تنفيذه من خلال نُظم حاسوبية يتم تحسين قدرتها (optimization) على الاستهداف أو القتل عبر قياس أدائها على الأرض.

في الجزء الثاني من المقال سنتناول صعود ما يسمى بالفاشية التكنولوجية، دعم “بالانتير” لإسرائيل، ومساهمتها في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.