أحمد عسيلي

انشغل المجتمع السوري خلال الأسبوع الماضي بحدثين وُصفا على نطاق واسع بأنهما خطيران وحساسان.

الحدث الأول تمثل في تسريبات صحفية تحدثت عن وجود تمويل إسرائيلي لقوات تابعة للشيخ حكمت الهجري منذ الأسبوع الأول للتحرير، وعن علاقة تتجاوز الظرف الراهن لتعود إلى ما قبل مجازر السويداء، أما الحدث الثاني، فكان خرق الهدنة التي كانت قائمة في مدينة حلب بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والسلطة في دمشق، وما تبعه من سقوط قذائف على بعض أحياء المدينة، في مشهد أعاد إلى الواجهة صورًا ظن كثيرون أنها أصبحت من الماضي.

يجب أن أؤكد بداية، هذه المادة لا تهدف إلى مقاربة هذين الحدثين من زاوية سياسية أو عسكرية، ولا إلى تقييم مواقف الأطراف المتداخلة فيهما، بل تنطلق من سؤال مختلف: كيف تلقى المجتمع السوري هذين الخبرين؟ وكيف تعامل معهما نفسيًا وانفعاليًا؟ فليس الحدث بحد ذاته ما يستوقفنا هنا، بل ما أحدثه (أو الأصح ما لم يُحدثه) في الوعي العام.

الملاحظة الأبرز أن الحدثين، على الرغم من ثقلهما، لم يُحدِثا تغييرًا يُذكر في المواقف، لم تظهر إعادة تموضع واضحة، ولا مراجعة جماعية، ولا حتى ارتباك ما، حتى لدى ناشطين لطالما اعتبروا العلاقة مع إسرائيل معيارًا أخلاقيًا حاسمًا، لم يؤدِّ هذا الكشف إلى تحول فعلي، فما زال الشيخ حكمت الهجري والمؤسسات التي نشأت في السويداء تُعامَل بوصفها مرجعية وطنية وأخلاقية (بالنسبة لهؤلاء طبعًا)، وكأن الخبر لم يغير شيئًا في موقعها الرمزي.

بل إن الأمور ذهبت أبعد من ذلك حين خرج طلال عامر، الناطق الرسمي باسم قوات “الحرس الوطني” في السويداء، ليقر على الهواء مباشرة، بوجود علاقة علنية وغير سرية مع إسرائيل، في مرحلة يحكمها اليمين الإسرائيلي المتطرف. عامر نفسه شخصية عسكرية شغلت سابقًا مواقع قيادية في جيش نظام الأسد، أي أنه يجمع في مسيرته رمزين كان يُفترض أن يكونا متناقضين: العلاقة مع النظام السابق، والعلاقة مع إسرائيل، ومع ذلك، لم يُحدِث هذا التصريح أي اهتزاز يُذكر في صورته أو في موقعه.

المشهد ذاته تكرر في حلب، فعلى الرغم من شهادات مباشرة عن سقوط قذائف على أحياء سكنية مصدرها مناطق الشيخ مقصود، جرى نفي هذه الوقائع بأسلوب فج، لا يحاول حتى بناء رواية بديلة متماسكة، ومع ذلك، لم تتحول هذه المفارقة إلى صدمة عامة، ولا إلى سؤال واسع حول ما جرى.

من الضروري هنا توضيح نقطة أساسية: لا يبدو أن المواقف كانت ستتغير لو كانت الوقائع معكوسة بين المعسكرين، فنحن هنا لا نتحدث عن تناقض خاص بطرف واحد، بل عن حالة عامة، فالموقف لم يعد يُبنى انطلاقًا من الوقائع، بل تُستدعى الوقائع، أو تُحَيد، لخدمة موقف سابق عليها.

ما نعاينه هنا ليس كذبًا واعيًا ولا نفاقًا أخلاقيًا، بل تحول أعمق في آلية الاشتغال النفسي، لقد فقدت المعلومة قدرتها التحويلية، لم تعد الحقيقة، مهما بلغت قوتها، قادرة على إحداث قطيعة أو مراجعة، لأنها تطلب من الفرد تكلفة نفسية عالية: إعادة تموضع، خسارة يقين، وربما خسارة انتماء، في سياق مُنهِك، يصبح تجنب هذه التكلفة خيارًا لاواعيًا، وشكلًا من أشكال الاقتصاد النفسي الذي يهدف إلى الحفاظ على حد أدنى من التماسك.

من هنا، يصبح السؤال الحقيقي: هل نحن محكومون بالبقاء في هذه الحالة؟

الجواب ليس حاسمًا، لكنه واضح في نقطة أساسية: الخروج من هذا الجمود غير ممكن بالأدوات السائدة اليوم، لا مزيد من المعلومات، ولا خطابات أكثر حدة، ولا فضائح إضافية ستغير شيئًا، طالما أن طريقة بناء الموقف نفسها لم تتغير.

المدخل الحقيقي لا يكمن في صراع الروايات، بل في الانتقال إلى مساءلة العلاقة مع الرواية، بدل سؤال: مَن على حق؟ يصبح السؤال: كيف تشكل هذا الموقف؟ ماذا يحمي؟ وما الذي يخشاه صاحبه لو اهتز؟ هذا التحول لا يطلب تغييرًا فوريًا في القناعات، بل يفتح مساحة للتفكير في الشروط النفسية التي تجعل القناعة ممكنة أو متصلبة.

غير أن هذا النوع من الحوار لا يمكن أن يولد في الفضاء العام المفتوح، ولا على وسائل التواصل الاجتماعي، التي تقوم بنيتها على العرض والاستقطاب والدفاع عن الهوية أمام جمهور، في هذه المساحات، لا يغير الناس مواقفهم، لأن أي تغيير يُقرأ كهزيمة رمزية، الحوار الممكن اليوم هو حوار محدود، بطيء، وفي مساحات أصغر: مجموعات نقاش، دوائر عمل، أو لقاءات مباشرة تدار من قبل أشخاص قادرين على احتواء التناقض بدل فضحه، وعلى إدارة الخلاف بدل تحويله إلى معركة.

هذا الحوار لا يهدف إلى توحيد المواقف ولا إلى إنتاج رواية “صحيحة”، بل إلى استعادة قدرة أساسية فُقدت: القدرة على تحمل الحقيقة، نعم تحمل الحقيقة، فالأزمة التي تكشفها أحداث هذا الأسبوع ليست سياسية فقط، بل نفسية واجتماعية: خطر أن يصبح الموقف بلا وقائع، والوقائع بلا أثر، والانفعال بلا اتجاه.

الخروج من هذا النفق، إن حدث، لن يكون دفعة واحدة، ولن يظهر في شكل تحولات كبرى، سيبدأ على الأرجح بتغييرات صغيرة في طريقة الكلام، وفي نوع الأسئلة المطروحة، وفي السماح بجملة بسيطة لكنها حاسمة: أنا مرتبك، أنا متناقض، أنا غير قادر على اتخاذ موقف الآن.

وهذا، في السياق السوري الراهن، ليس علامة ضعف، بل الشرط الأول لأي حوار حقيقي ممكن.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.