لعل الصفة التي ارتبطت بالمخرج الراحل داوود عبد السيد (23 نوفمبر 1946- 27 ديسمبر 2025) أكثر من غيرها هي أنه كان “مهموماً”.. وهي الكلمة التي غالباً ما كانت تتردد على لسانه في سياق الحديث عن نفسه أو عن مواصفات الفنان الجيد.

في حوار أخير له مع الاعلامية لميس الحديدي، يكرر عبد السيد الكلمة في إطار حديثه عن المخرجين الجدد: يجب أن يكون المخرج مهموماً، ليس بمعنى الهمّ، ولكن بمعنى أن يكون لديه هموم، واهتمام، وانشغال، أن يكون لديه ما يحمل همّه، ويشغل باله.

عن الفن والناس والأنبياء

دائماً وأبداً كان داوود عبد السيد مشغول البال: بالخلاص الفردي بالمعنى الديني، بما يعنيه وماجب أن يكون عليه الفن، بحال البلد، وأحوال العالم، بـ”الناس والأنبياء والفنانين”، كما يقول عنوان فيلمه الوثائقي الذي صنعه عن الفنان التشكيلي راتب صديق وزوجته النحاتة عايدة شحاتة (1979). 

بملامح وجهه المنحوتة كتمثال فرعوني، أو أيقونة قبطية، والتي شكلت مع أفلامه قاعةً صغيرةً متميزة، لا تشبه معروضاتها شيئاً آخر، في متحف السينما المصرية، يبدو داوود عبد السيد، وأفلامه، دوماً وأبداً، مهمومين بالوطن وناسه، وبذلك الحاضر، الذي يتخبط دوماً، بين ثقل الماضي وخفة التحرر منه، شوقاً إلى مستقبل أفضل، لا يأتي أبداً.

“وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم”، هو عنوان فيلم وثائقي آخر صنعه داود عبد السيد في 1976، يعد، عادةً، أول أفلامه، بالرغم من أنه صنع قبله فيلمين وثائقيين دعائيين هما “رقصة من البحيرة” (1972) و”تعمير مدن القناة” (1974)، في إطار وظيفته كمخرج معين في المركز القومي للسينما (مثل كثير من زملاءه خريجي معهد السينما في ذلك الوقت).

“وصية رجل حكيم” هو بالفعل أول عمل يمكن العثور فيه على شخصية صانع الأفلام داوود عبد السيد، والإرهاصات الأولى لاسلوبه السينمائي: السرد الذي يسير في خطوط ومستويات متوازية، ملتبسة، والسخرية المبطنة التي تخفي نقداً إجتماعياً وثقافياً حاداً لعقلية التخلف!

أسلوب مبكر

من المثير تأمل الطريقة التي يتشكل بها اسلوب داوود عبد السيد في هذا الفيلم: هناك صور ترصدها الكاميرا لإنجازات وزارة التعليم والمسئولين المحليين، في إحدى القرى الصغيرة البائسة بالريف المصري، بما أن الفيلم صنع بهدف الدعاية لإنجازات الدولة.

ولكن التعليق الصوتي، الذي يفترض في الأفلام الوثائقية أن يكون مكملاً وشارحاً لما نراه على الشاشة، هو لصوت رجل رجعي، متزمت، كاره للتعليم لأنه يخرب عقول النشء، ويحرض على التمرد على السلطة، بأشكالها، السياسية والدينية والعائلية.

ورغم أن الفيلم يبدو للوهلة الأولى أنه يقدم صوت الراوي باعتباره أحد بقايا “العهد البائد” الإقطاعي، في مقابل التطور المدني الذي تطرحه الصورة، لكن النظرة الأكثر عمقاً تبين أن الفيلم يسخر، في الحقيقة، أو ربما يسخر، ليس من المؤكد، أنه يسخر، من النظام وأشكال السلطة التي تدعي أنها تعمل على تطوير المجتمع وتعليم المواطنين، بينما هي ترفض داخلها هذا التطوير وتخشى منه وتعتقد أنه كُفر وخطر على العادات والتقاليد.

لقد كُلف داوود وزملاءه من الشباب الذين تفتح وعيهم على صدمة هزيمة 1967، ثم حرب الاستنزاف وانتصار أكتوبر، الذي سرعان ما طويت صفحته لأسباب ستتبين فيما بعد، بصنع أفلام من إنتاج الدولة عن إنجازات الدولة، ولكنهم، حين ذهبوا لتصوير هذه الأفلام، اكتشفوا أن الواقع مختلف، ومن ثم اضطروا إلى ابتكار أسلوب فني يظهر هذه الحقيقة من دون التصادم مع جهة الإنتاج والرقابة، وهو يشبه ما فعله خيري بشارة أيضا في فيلمه الوثائقي “طائر النورس” (1975). 

فاكهة آخر الموسم

هذا الهم الذي حمله داوود عبد السيد على كتفيه كصخرة سيزيف (الذي حكمت عليه الآلهة بأن يظل يرفع الصخرة إلى أعلى الجبل، لتسقط منه قبل أن يصل إلى القمة، فيعود من جديد إلى رفعها، وهلم جراً) لعله السبب في قلة أعماله، وتهيبه من العمل، وتعبه في النهاية بدنياً ونفسياً، الذي أدى إلى اعتكافه وإعلانه الاعتزال قبل عدة سنوات.

كان داود عبد السيد آخر من دخل إلى صناعة السينما السائدة من بين أبناء جيله، في تحقيق كتبه عنه في بداية التسعينيات، عقب عرض فيلميه المتتاليين “البحث عن سيد مرزوق” و”الكيت كات”، وصفه الناقد الكبير كمال رمزي بأنه يشبه فاكهة آخر الموسم، الأطيب مذاقاً، في إشارة إلى أن دخوله المجال متأخراً جعل أفلامه أكثر نضجاً وحلاوة!

خلال مسيرته الروائية التي بدأت في 1985 (وعمره أربعون عاماً) بفيلم “الصعاليك”، لم يصنع داود عبد السيد سوى 9 أفلام، معظمها يعد الآن من كلاسيكيات السينما المصرية والعربية، وهي أفلام تتسم بأسلوب متجانس، ومضامين متشابهة أو متكاملة، وهمّ واحد يشغل بال صانعها وشخصياتها.

يمكن التعرف على ملامح هذا الهمّ مهما اختلفت الموضوعات، وذلك من خلال تتبع قصص وشخصيات وأسلوب إخراج هذه الأعمال: في كل من “الصعاليك” و”أرض الخوف” (2000) يجد الأبطال أنفسهم في عالم الجريمة، وبالرغم من براءتهم الأولى، لكنهم يتلوثون شيئاً فشيئاً، ويثقل الذنب كاهلهم، وصولاً إلى التطهر الأخير بالموت أو التكفير.

رحلة الخوف والغواية

النزول إلى أرض الخوف هو أيضاً ما يشكل الرحلة التي يقطعها يوسف كمال (نور الشريف) في “البحث عن سيد مرزوق”، حيث يتعرض لشتى أنواع الإغراءات والتخويف، فيما يشبه رحلة الروح بين الجحيم والمطهر في “الكوميديا الإلهية” لدانتي، والتي تمثل رحلة الإنسان الروحية الأصلية.

أحد وجوه هذا الهمّ “الداوودي” ديني وفلسفي وميتافيزيقي، يتعلق بوجود الإنسان نفسه على الأرض، وحياته التي تتناهشها التناقضات: الخير والشر، البراءة والإثم، النار والماء.. وهو في هذه الأعمال هم “فردي” يحمله المرء بالضرورة، مثل الخطيئة الأولى لآدم وحواء في الميثيولوجيا الإبراهيمية، منذ مولده.

بالرغم من اختلافه جزئياً، لكن “أرض الأحلام” (1993) ينتمي أيضاً إلى هذه الرحلة الروحية (إلى العالم السفلي) التي تقطعها بطلة الفيلم نرجس وصولاً إلى إدراك الذات لنفسها واكتساب الوعي اللازم للاختيار واتخاذ القرار.

أحد الوجوه الأخرى لهذا الهم هو “إجتماعي” يتعلق بالمفاهيم الأخلاقية والدينية للمجتمع، والتي غالباً ما تعمل على قمع الأفراد أو تحويلهم إلى منافقين، يمارسون الرزائل سراً، ويدعون الفضيلة علناً، أو إلى كائنات مبتذلة، جشعة، لا تفكر سوى في إشباع بطونها وغرائزها، أو إلى أفراد يشعرون بأنهم “خارج المكان”، في غير محلهم، كما يقول عنوان مذكرات إدوارد سعيد الشهير.

يمكن التعرف على ملامح هذه الصورة في “الكيت كات” (1991)، “سارق الفرح” (1994)، “مواطن ومخبر وحرامي” (2001) و”رسائل البحر” (2010). ورغم وجود الفرد الحائر، المتسائل، الأكثر وعياً، في هذه الأفلام من خلال شخصيات يوسف في “الكيت كات”، وسليم في “مواطن..”، ويحيى في “الرسائل..” إلا أن الصورة البانورامية الاجتماعية أكبر وأشمل، وتكشف بشكل أوضح عن الأسباب الاجتماعية والسياسية لتعثر وتلعثم وإحساس هؤلاء الأفراد بالإثم والعجز، من خلال التباين الشديد بينهم والشخصيات الأخرى الأقل وعياً، وأكثر تصالحاً مع الإزدواجية والجشع والابتذال.

السياسة.. الغائب الحاضر

الوجه الثالث لهذا الهمّ “الداوودي” هو السياسي، ورغم أن السياسة تبدو أقل أهمية من التحليل النفسي والاجتماعي في أفلام داود عبد السيد، مقارنة، مثلاً، بأعمال عاطف الطيب أو محمد خان، إلا أنها حاضرة دائماً من خلال رسم العلاقات بين الأفراد (الخارجين عن  السرب والقطيع) ورجال الشرطة والسلطة، كما يظهر في “البحث عن سيد مرزوق” و”الكيت كات” و”أرض الخوف” و”مواطن ومخبر وحرامي”: دائما هناك صوت السلطة السياسية والأمنية الذي يهمس في أذن المواطن بالعودة إلى البيت وتجنب المشاكل والرضوخ لقواعد وتقاليد المجتمع.

في كل هذه الأعمال يتجسد الـAnti- Hero أو الخصم الذي يواجه البطل في شخصية تجمع الصفات التالية أو معظمها: النهم (إلى السلطة والمال والطعام والجنس)، الابتذال، الجهل، ادعاء الأخلاق والتدين، وقبل هذا وبعده: اللامبالاة.. وخاصة اللامبالاة.

البحث عن الديموقراطية والحريات السياسية والشخصية هم الغائب الحاضر الذي يشكل الخلفية والتحدي والمشكلة الأكبر التي يواجهها معظم أبطال أفلام عبد السيد، وحتى لو لم تكن تنطق بشكل مباشر، إلا أن أي قراءة لهذه الأفلام من الصعب أن تستبعد التحليل السياسي، كما أن تخفيها (حتى لو كان لأسباب رقابية ذاتية أو خارجية) يمنحها حضوراً أكبر وأخطر.

كما يشير إلى الهموم، يشير داوود عبد السيد في حواراته إلى كونه ابناً نموذجياً للطبقة الوسطى (كما يقول لعلاء خالد في كتابه “سينما الهموم الشخصية” (دار المرايا- 2024)، في الحقيقة فإن هموم عبد السيد هي انعكاس لهموم الطبقة الوسطى التي تشكلت منذ بداية القرن العشرين وصعدت إلى السلطة في 1952، ثم منيت بالهزائم المتوالية منذ 1976 وحتى اليوم، في سلسلة من الاستبداد والانحطاط الثقافي والاجتماعي والانفصال الطبقي الشاهق.. تلك الهموم التي شغلت أعمال داوود عبد السيد، وقضت على روحه وبدنه في نهاية المطاف.

*ناقد فني

شاركها.