يعقوب بن محمد بن غنيم الرحبي
في كثير من الأحيان، يصل الجمود الفكري إلى مرحلة “الهلوسة”، مما ينتج عنه كوارث إنسانية، اقتصادية، ثقافية، واجتماعية؛ ذلك أن الهلوسة إذا وصلت إلى هرم السلطة نخرته من الداخل، فيصعب حينها العلاج لكون السلطة هي المهيمنة على الشعوب.
لهذا تاريخيًا، لم تكن محاولات بناء الأمجاد عبر الغزو والاحتلال ونهب الثروات طريقًا مستدامًا للاستقرار؛ بل غالبًا ما كانت تنتهي بنتائج كارثية على المدى الطويل؛ سواء للدولة المُستعمِرة أو الشعوب المُستعمَرة. وهنا أود أن أشير إلى بعض النتائج المترتبة على هذا النهج من عدة زوايا نراها اليوم تتهاوى وتتساقط أقنعتها؛ هذا النهج الذي يتخذ وجوهًا وأشكالًا متعددة، فتارة يرتدي ثوب الإنسانية، وتارة شعار التنمية والاستثمار وحماية السلام الدولي، غير أن جوهره واحد: نوايا خبيثة السيطرة ونهب الثروات والتحكم بمقدرات الشعوب، وتخديرها تحت شعارات رنانة مثل “الشراكة الاستراتيجية” أو “الدفاع المشترك”.
تبدأ هذه الأقنعة بالسقوط مع بداية الانهيار الداخلي والتآكل الاقتصادي. ورغم أن النهب قد يوفر ثراءً سريعًا في البداية، إلا أنه يخلق اقتصادًا قائمًا على “الريع” والسرقة لا على الإنتاج والابتكار. وتتكبد هذه الدول تكلفة باهظة للحفاظ على الأراضي المحتلة، وقمع الثورات الذي تفوق تكلفته العائد المادي للنهب. فلا توجد شعوب تقبل الهيمنة للأبد، وإن قبلت بالمحتل مؤقتًا فبسبب ضعف أو انقسام داخلي أو فقر، لكنها سرعان ما تتعافى وتنتفض. وغالبًا ما تؤدي الثروات المنهوبة إلى انتشار الفساد في الطبقة الحاكمة وانهيار القيم العملية لدى الشعوب، مما يؤدي لسقوط الدولة بمجرد توقف تدفق المنهوبات.
مما لا شك فيه أن الدول التي تبني تاريخها على دماء الآخرين تترك خلفها كراهية تاريخية وعزلة دولية، وجروحًا لا تندمل بسهولة. فالمقاومة ستستمر، ولا يمكن إخضاع الشعوب للأبد، والاحتلال يولِّد مقاومة شرسة تستنزف موارد الدولة الغازية بشريًا وعسكريًا، كما أن المنظمات الدولية العادلة تنبذ هذه الدول وتُفرض عليها عقوبات، مما يحولها إلى “دولة مارقة” معزولة سياسيًا وثقافيًا.
أما “المجد الزائف” والتشوه الهُويَّاتي الناتج عن محاولة صناعة تاريخ عبر السطو على حضارات الآخرين، فإنه يؤدي إلى بناء هوية هشة؛ فبمجرد أن تضعف القوة العسكرية يتبخر هذا “المجد” لأنه لم يُبنَ على منجزات حضارية ذاتية (مثل العلم، الفن، العدل والتسامح)، بل بُني على الكبرياء والغطرسة والقوة الغاشمة التي هي متغيرة بطبعها.
لهذا، فإن السقوط المدوي هو حتمية تاريخية. ودروس التاريخ شاهدة على ذلك (مثل الإمبراطورية الرومانية، الاستعمار القديم، الأنظمة الفاشية، والاتحاد السوفيتي). وها هي اليوم إسرائيل، التي ظنت أنها تعيش في مأمن، فإذا بالسابع من أكتوبر يُغيِّر مجرى التاريخ، ويسطر ملحمة شعب حر أبيّ يطالب بحقوقه المشروعة، فيقلب الطاولة على المحتل ويهز أركانه، حتى كاد يكون قاب قوسين أو أدنى من السقوط لولا ظهور العملاء الذين هم كالسرطان في جسد الأمة.
إنَّ كل قوة اعتمدت على التوسع القسري واجهت النهاية ذاتها: التفكك والتمزق من الداخل والخارج، والمعاناة من الإفلاس الأخلاقي. وتظل الوصمة التاريخية تلاحق أحفاد تلك الدول، مما يضطرهم لاحقًا لتقديم اعتذارات وتعويضات لعقود طويلة.
خلاصة القول.. إن التاريخ الذي يُكتب بالدم والسرقة هو “تاريخ مؤقت”، أما المجد الحقيقي فهو الذي تبنيه الدول من خلال التنمية، والعدل، والمساهمة في الحضارة الإنسانية ثقافيًا واجتماعيًا؛ هذا هو الإرث الذي لا يمكن لأحد انتزاعه أو إنكاره.
