اخر الاخبار

“أبو زعبل 89”.. عن محاكمة الأب والفردوس المفقود

لم تمنع التضيقات الرقابية ولا مشكلات العرض الافتتاحي، من إقامة عدة عروض متتالية للفيلم الوثائقي الأول للمخرج المصري بسام مرتضى “أبو زعبل 89″، خلال فعاليات الدورة الخامسة والأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، حيث عُرض الفيلم ضمن برنامج أسبوع النقاد، وصعد بصُنّاعه 3 مرات من أجل استلام جوائز أفضل فيلم وثائقي طويل، وأفضل فيلم أفريقي، بالإضافة إلى تنويه خاص بالمخرج الشاب.

ينتمي “أبو زعبل 89″، كوثائقي أرشيفي مُعاد بناء الكثير من مشاهد سرديته الأساسية، إلى السينما الذاتية، حيث ينطلق الفيلم بمحتواه التاريخي والسياسي والاجتماعي من ذاكرة صانعه ومحطات حياته، وهمومه، ومشكلاته القابضة على جمر متقد، وبوصلته النفسية التي لا تزال تبحث عن شمال مناسب.

ينطلق بسام في فيلمه الأول من حادثة ذاتية جداً، وهي زيارته الأولى لوالده المسجون السياسي محمود مرتضى عام 1989، في سجن أبو زعبل، عقب القبض عليه بتهمة الاشتراك في تنظيم شيوعي محرض على اعتصامات عمال مصنع الحديد والصلب بحلوان، قرب نهاية العشرية الأولى من حكم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، ووزير داخليته زكي بدر.

تنعكس هذه الذاتية الشديدة بصرياً، عبر إعادة بسام تمثيل مشاهد الزيارة تعبيرياً، ووقوفه هو نفسه أمامها وهي معروضة على شاشة كبيرة كأنها شاشة ذاكرته، التي يريد من خلالها أن يستغل الفيلم لإعادة النظر في تاريخه الشخصي، والنقطة الفارقة حياتياً وإنسانياً في تكوينه ورحلته وأزمته.

يبدو خيار إعادة البناء التعبيرية وتمثيل جانب من الذكريات خيار سينمائي بامتياز، خاصة أنه من الصعب العثور على أرشيف خاص أو عام يخص المشاعر أو السياقات الخفية داخل كواليس عائلته، وتدريجياً يصبح إعادة التشكيل هو أسلوب بسام الأساسي، ليس فقط في استدعاء اللحظات التي عاشها صغيراً وقت القبض على أبيه، ولكن ذهاباً إلى ما هو أبعد من ذلك، الذهاب/ السفر في الزمن والوقائع لكي يضع نفسه موضع أبيه خلال محاكمته الطويلة له، خصوصاً عندما يبدأ البناء في تشكيل أزمة بسام الحقيقية، خروج الأب من السجن وتحوله السياسي من مناضل يساري إلى مثقف مهزوم، وهروبه من مسؤوليات أسرته الصغيرة باتجاه حياة أكثر تحرراً وانطلاقاً خارج مصر كلها.

“اللي خرج مش هيرجع زي ما كان”

تبدو محاكمة الأب هي الواجهة الأساسية لتجربة عائلة مرتضى التي يعيد بسام صياغتها في فيلمه، يستمع إلى مرافعة أبيه الذي لا يبدو مشغولاً بالدفاع عن نفسه قدر انشغاله بالتأصيل أو البوح بما حدث “لأول مرة أحس إن ليا أحلام على المستوى الشخصي”، وتأتي هذه المرافعة بالتزامن مع لقطات للأسلاك الشائكة التي تحبس السماء ثم ظل بسام -في تمثله لحكي أبيه- وهو يسير منعكساً على خطوط القضبان التي تحبس الأرض.

يحاول بسام أن يبدو محايداً استغلالاً لأسلوب إعادة البناء التعبيرية، نراه وهو يعيد تمثيل المشاهد التي يرويها الأب في السجن والزنزانة، وحتى بعد الإفراج عنه، كأنه يريد أن يمنحه كل الحق في تفهم موقفه الحارق تجاه بسام ووالدته “فردوس”، التي نراها في الناحية الأخرى من الفيلم وهي تحكي سرديتها عن الأحداث، وعن حقيقة ما حدث من وجهة نظرها، التي تريد أن تبدو محايدة هي الأخرى، لكنها ليست كذلك بالطبع.

في محاولة منه لتفكيك موقف الأب وتحليل مشاعره في تلك اللحظات، يذهب بسام للغوص في حوض لشرب البهائم، ليعيد تأطير الحالة التي خرج بها الأب من السجن، وذهب ليغوص في حوض مشابه كما يحكي أمام الكاميرا، إنها معايشة اللحظات التي تنتجها ذاكرة الأب كرغبة من بسام في تحقيق التوحد الكامل من أجل استيعاب الماضي والتاريخ الفارق بالنسبة لأسرته.

تؤكد الأم في روايتها أن “اللي خرج مش هيرجع زي ما كان” على حد تعبير الأب، وهو ما يمتد ليس فقط في الماضي ولكن حتى في حاضر الأسرة، حيث يختار بسام توقيت مثالي جداً للتصوير مع أبيه، في أثناء انتقاله إلى بيت جديد، لقد كان خروج الأب وقت حبسه عام 1989، خروجاً مؤقتاً في ظاهره، لكنه في حقيقة الأمر لم يعد مرة أخرى بالفعل، أو أن من عاد ثانية بعد الإفراج عنه لم يكن الأب الذي عرفوه.

لهذا كان اختيار توقيت العزال أشبه بإعادة إنتاج جانب مهم من اللحظة، التي تبعت خروج الأب النفسي والمادي والمجازي من بيت الأسرة، عقب الإفراج عنه.

لكن مع انتهاج بسام لأسلوبية إعادة التشكيل التعبيري للذكريات والهواجس، حتى حلمه نفسه بالسقوط يجسده في مشهد تعبيري، يمكن أن نسأل: هل هناك إفراطاً في استخدام هذا التكنيك؟، هل زاد الاستدعاء عن الحد فأغرق التجربة في مزيد من الذاتية المغلقة على صانعها، وصنع ثقباً أسود يبتلع الحاضر لصالح استدعاءات الماضي التي لا تنتهي!

خاصة أن الماضي يحتوي على كل التفاصيل والأفعال وردود الأفعال والحوادث الكبار، كما نراها تعبيرياً وأرشيفياً وعبر الحكي والشخصيات، في حين أن الحاضر لا يحتوي سوى على تفاصيل قليلة جداً، أهمها بالطبع موت الأم “فردوس” خلال التصوير، مما عمق الهوة من جديد بين الأب والابن، وهو جانب بصري مهم لا يمكن إغفاله حيث الانفصال المستمر من البداية في التكوينات ونظرات العيون في جلساتهما المشتركة، أو كما يقول الأب: “فينا حاجة شبه بعض”، ولكن بنبرة مطبعة دون روح أو طعم.

هزيمة الحاضر

ينتقل الأب من بيت لآخر، تموت الأم خلال التصوير، يقرر الأب التوجه إلى الأرض التي اشتراها في قرية الفردوس بالفيوم، القرية التي تحمل في صدفة قدرية اسم الأم الراحلة، ثم النهاية المتوجة بسؤال مفتوح، هذه هي فقط مجموع أحداث الحاضر التي يتفوق عليها الماضي بكل حمله النفسي والشعوري والشخصي، حتى ظهور الممثل سيد رجب نفسه، نراه في هيئة ماضوية وهو يحكي عن تجربة اعتقاله مع الأب، ويستعيد جانب مؤلم من ذكرياته عن الرحلة والمرحلة.

يبدو الحاضر في الفيلم مهزوماً أكثر من الماضي، رغم ما يحمله الماضي من حكايات عن هزائم لا حصر لها، ففي تتابع لماح يمزج بسام بين حديث الأب عن فيلم “شحاذون ونبلاء” للمخرجة أسماء البكري، وبطولة صلاح السعدني، إنتاج 1991، خاصة في مشهد انهيار بطل الفيلم المثقف الخاسر لمعركته الاجتماعية والسياسية وبين الأب وهو يجلس من نفس الزاوية شبه منهار على كرسي في منزله الجديد، بينما شريط الصوت يتحدث عبر تسجيلات الأب التي كان يرسلها لابنه عن الفيلم، وكأنه يصف ذاته، سواء في نظرته لأحلامه، ونظرة بسام نفسه للأب بعد أن سافر إلى فيينا تاركاً إياه وأمه من أجل بداية جديدة، أو غسل ملامح قديمة كما نرى الأب وهو يغسل وجهه في الحاضر، كأنما تتنقل المجازات بشكل مركب ومرعب في الوقت نفسه، ما بين (زمان) والآن.

ولا يكتفي بسام بإعادة معايشة مشاهد من حياة أبيه، بل يعيد تمثيل نفسه على اعتبار أنه لا يزال الطفل الصغير الذي ينظر إلى تحولات العالم الكبرى في السنوات الفارقة من عام 1989 إلى 1991، كانهيار الشيوعية وسقوط حائط برلين وغزو الكويت، وكأنه غير مستوعب لتأثير كل هذا على حياته وحياة أمه، وهما اللذان تركا نهبا للإحباط والتخلي والوحدة.

وفي سياق محاكمة الأب/ الماضي يقوم بسام بمواجهة والده بالمشاهد التي أعاد فيها بسام تشخيص دور الأب، كأنه يعيد تذكيره باللحظات التي لا يبدو أنه نسيها، ولكن على صوت الأم الخشن جراء سرطان الحنجرة، كممثل الادعاء، وهي تحكي عن الأيام الأولى بعد الخروج وقبل الهروب.

حتى انتقاء التيمة الموسيقية لفيلم “الاختيار” على صوت الأم وهي تحكي عن هروب الأب، يؤكد على اعتبار أنه جزء من هزيمة المثقفين في تلك الفترة، و”الاختيار” هو الفيلم الذي حاكم فيه يوسف شاهين ازدواجية المثقفين وحملهم جزءاً من مسؤولية هزيمة 1967 بسبب خيانة المبادئ والنظرة الملفقة للواقع بغرض الصعود الطبقي والمكاسب الشخصية، ثم ترحل ممثلة الادعاء بعد أن ألقت بشهادتها عن الأب والفترة، ويعلن بسام: “جوايا يا بابا زعل أمي منك وبقى تجاهله خيانة”.

الفردوس المفقود

عقب موت الأم تتسع المسافات بين الأب والابن ثانية بصرياً ومكانياً بصورة واضحة، حيث يبدو التكوين الدرامي وبينهما كتلة جدار ضخمة مقصود ومؤلف وغير عفوي، لكن يمكن تقبله ضمن سياق المجاز التعبيري، هناك عدة لحظات في الحاضر تبدو مستعادة وممثلة بين الأب والابن، لكنها متقبلة في الإطار الذي أشرنا إليه، خصوصاً مع انتقاء بسام لتسجيلات صوتية للأب يعاتب فيها بسام الصغير لأنه تأخر في إرسال خطابه المعتاد.

يختار بسام لقطات لما تبقى من البيوت المهدمة على جانبي الطريق الدائري في الجيزة، مع تعليق صوتي يفيد إتاحة الفرصة للأب للذهاب إلى منزل الأم “فردوس” في حي حلوان -مسقط رأس العائلة الأول- بعد رحيلها، وذلك في دلالة واضحة، لقد تهدم البيت وسقط عمود الفردوس/ الأم، واختفت جدرانه مجازياً تماماً مثل الشقق والعمائر على جانبي الطريق التي تحمل بقايا ألوان البشر التي سكنوها قبل أن يتم تهجيرهم لصالح توسعة الطريق نحو ما كان يتصوره الأب (إنجازات).

في النهاية يحاول بسام موازنة موقف الأب الشخصي بين كفة هجران العائلة، وكفة انهيار أحلامه السياسية (كما في حكاية العامل الذي دعمه الأب في ترشحه لمجلس الشعب ضد الحكومة، ثم انضمام العامل إلى الحزب الحاكم -الوطني- بعد نجاحه في الانتخابات الشرسة، مدعياً بذلك أنه يخدم أهل دائرته بصورة أفضل).

بعد هذه الموازنة النسبية تعود المسافات لتقترب بصرياً في بيت الأم، عقب غياب (قلبها الصغير) كما تطلق عليه في الخواطر التي تركتها بقلمها لبسام، لكن بسام على ما يبدو لا يغفر الغياب لا لأبيه ولا لأمه، ويطلق صرخته العامة أخيراً (الأكيد أن ماليش مكان هنا.. بس خايف أسافر).

هذا الاعتراف المهم هو العنصر الأساسي وشبه الوحيد الذي يخرج الحكاية الخاصة من إطار الذاتية الشديدة والانغلاق على الموضوع الأسري، ليؤكد على التماس مع الهم الاجتماعي والسياسي العام، ومع الحاضر في الوقت نفسه، حيث نسمع المذيع عمرو أديب وهو يتحدث عن اليوم الأخير في حياة مصنع الحديد والصلب قبل هدمه.

بهذا الاعتراف، يبدو بسام وكأنه يتحدث عن حال شرائح كثيرة من الجيل الذي يمثله، والذي انهارت أحلامه كلها دفعة واحدة، وفسد واقعه، واعتم مستقبله في ظل مناخ مقبض وخشن ومصمت، وبالتالي يصبح سؤال السفر والخروج -كما أجاب عليه الأب قبل سنوات- هو السؤال الأهم والأشمل والأكثر شيوعاً، خاصة مع جدلية الإجابة وصعوبة تحققها في الحاضر على مستويات كثيرة.

يمكن الجزم بأن هذا الاعتراف/ السؤال، حرر بعض من ذاتية الفيلم المحوطة للسردية، وأطلق العنان لبعض تنهدات الإجابات الغامضة والبعيدة، وخلق التوازي المنتظر بين جيل الأب وجيل الابن في “حبستهما” المجازية ودواعي خروجهما، حتى ولو لم يتحقق على مستوى الابن حتى الآن.

في عام 1989، كان أبو زعيل مجرد سجن اعتقل فيه الأب، أما في 2024 فيبدو أن المكان كله صار بالنسبة لجيل بسام، أبو زعبل.

* ناقد فني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *