اخر الاخبار

أجيال من ضحايا “أدلجة” التعليم في سوريا

كريستينا الشماس | بيسان خلف

“أهدافنا وحدة حرية اشتراكية”، جملة ترددت كثيرًا على ألسن طلاب سوريا، ومصطلحات كـ”أمة عربية واحدة”، “رسالة البعث الخالدة”، رافقت مناهجهم طيلة فترة الدراسة، ولا يكاد ينساها حتى أبناء جيل السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.

قاد حافظ الأسد عام 1970 انقلابًا عسكريًا أطلق عليه “الحركة التصحيحية”، وعقب الانقلاب صدر دستور عام 1973، الذي ضم 156 مادة أبرزها المادة الثامنة، التي تنص على أن حزب “البعث العربي الاشتراكي” هو “الحزب القائد في المجتمع والدولة”.

في 24 من آذار 1974، صدر القرار رقم “493”، وجاء مباشرة من رأس السلطة آنذاك، ونص على تأسيس ما يسمى منظمة “طلائع البعث” ودمجها بالمدارس من المرحلة الابتدائية إلى الإعدادية.

وكان للثانوية خصوصيتها “البعثية”، حين ينتقل الطلاب من “طلائع البعث” إلى “شبيبة الثورة”.

المدرسة كتيبة عسكرية

“الساعة السابعة صباحًا نقف في الطابور المدرسي نردد شعار (كن مستعدًا دائمًا لبناء الوطن العربي الاشتراكي الموحد والدفاع عنه)، دون أن نفهم ما الوطن الموحد”.

تروي السيدة الأربعينية جهان محارب قصتها، ل، في مدارس سوريا بعهد نظام حافظ الأسد.

وقالت، “كنا نرتدي اللباس الطليعي في المرحلة الابتدائية، سترة بلون عسكري، وسيدارة (القبعة) عليها شعار منظمة الطلائع”.

أما في المرحلة الإعدادية والثانوية فتتحول المدرسة إلى كتيبة عسكرية، فكنا نرتدي بدلات عسكرية، ونضع رتبًا حمراء على كتف البدلات للدلالة على المرحلة الصفيّة، ومن لا يلتزم باللباس يتعرض للضرب بالعصي من قبل مدرب العسكرية.

ولم يتوقف ذلك بفرض ممارسات الكتيبة العسكرية، بل عمدت شعبة البعث في كل مدرسة إلى إزالة الحجاب عن رؤوس الطالبات قسرًا في عام 1980، عندما كان رفعت الأسد قائد “سرايا الدفاع”.

ووفقًا لجهان، كانت بعض الطالبات يلجأن لارتداء “السيدارة” لتغطية رؤوسهن، خوفًا من حرمانهن التقدم الامتحان.

“شبيبة الثورة”.. “شباب هتلر”

” شبيبة الثورة هي الوجه الآخر لمنظمة شباب هتلر”، هذا ما اكتشفته جهان عندما كبرت وهاجرت إلى خارج سوريا، وقرأت التاريخ.

ترى جهان أن منظمة “شبيبة الثورة” لا تختلف أبدًا عن منظمة “شباب هتلر”، فما عمله الحزب النازي في ألمانيا على نشر الأيديولوجيا النازية بين اليافعين، أعاده نظام حافظ الأسد بحشو عقول اليافعين بمبادئ حزبه الحاكم.

حركة “شباب هتلر” هي حركة شبابية نازية، كان لها قسمان مختلفان أحدهما للفتيان يطلق عليه اسم “شباب هتلر”، والآخر للفتيات تحت اسم “رابطة الفتيات الألمانيات”.

وكانت معسكرات الطلائع في مدارس سوريا مخصصة للأنشطة الرياضية والترفيهية، ولكن دورات “الصاعقة” ومعسكرات “الشبيبة” كانت أقرب لدورات الالتحاق بالجيش، “كنا نتدرب على استخدام السلاح”، بحسب قول جهان.

وأضافت، “كان يتولى التدريب على استخدام السلاح مدربون عسكريون وضباط في الجيش السوري، وكانت زيارات الأهل ممنوعة”، ففي رحلتها الوحيدة إلى معسكر “الصاعقة”، تم تعنيفها على يد مدرب العسكرية لأنها لم تستطع حشو السلاح.

قولبة التاريخ قبل “البعث”

“رؤساء سابقون يصفهم كتاب التاريخ بـ(لا وطنيين)، لم أسمع باسم أمين الحافظ بكتاب التاريخ”، قال الصحفي علاء عربجي.

وأضاف، “كتاب القومية كان بمثابة أداة للعبث المنظم بعقول الطلبة، بحيث يصبح الطالب في سن 18 مقتنعًا تمامًا بكل المغالطات المنطقية والفكرية والأكاذيب الممزوجة بالحقائق”.

اعتبر سامر (27 عامًا)، أن مادة القومية أدلجت عقول الأطفال، وشوشت مصطلح المواطنة من خلال اختصاره بأداء واجب وأخذ حق غير واضح، كما كانت دروس القومية على مدار 12 عامًا في حياته المدرسية مليئة بنظريات المؤامرة.

خلافة الابن للحكم.. التعليم يمجد

عقب وفاة حافظ الأسد، في 10 من حزيران 2000، ورث الحكم ابنه بشار الأسد بتوافق حزب “البعث”، فعُدّل الدستور من أجله في اجتماع للبرلمان لم يتجاوز ربع ساعة، واعتبر التعديل الأسرع في العالم.

عدلت المادة رقم “83” من الدستور التي تنص على أن سن الرئيس يجب أن تكون 40 سنة، وفي تصويت لم يتجاوز الدقائق، تغير نص المادة على أن سن الرئيس يمكن أن تكون 34 سنة، وهي سن بشار في ذلك الوقت، ليتمكن من تولي رئاسة سوريا.

تحولت سوريا حينها بمؤسساتها الحكومية، وعلى رأسها التعليمية، لتمجيد شخص مع حزبه لأنه رئيس، “فلك أن تتخيل طالبًا في المرحلة الابتدائية لم يتجاوز عمره عشر سنوات يردد شعارات حزبية يومية، لا يمكن لعقله البريء أن يفسر أبسط كلمة يرددها”، وفق ما ذكرته المعلمة وفاء، وهي مديرة إحدى مدارس ريف دمشق سابقًا.

 

الثامنة صباحًا أتذكر الوقت تمامًا، ولمَ لا، 40 سنة قضيتها في التدريس، عالقة في ذاكرتي شعارات تُردد كل يوم، “وحدة حرية اشتراكية”، كان السؤال يراودني دومًا، كيف كان لي أن أفسر فحوى هذه الشعارات لطلاب لم يعلموا حينها أن المعلمين أنفسهم عاجزون عن فهم ماذا نقول.

وفاء خوري

معلمة متقاعدة

 

“مع انطلاق الثورة السورية، تحولت مهمتنا من معلمين إلى مدافعين عن النظام، فكانت تأتينا أوامر بالخروج في مسيرات مؤيدة للنظام وإجبار جميع المعلمين والطلبة على المشاركة بها”، قالت المعلمة وفاء.

مايا (26 عامًا)، كانت تعيش في بلدة صحنايا بريف دمشق، روت قصتها ل، “عندما كان عمري 12 عامًا في الصف السادس، النظام سلب مني طفولتي”، معبرة عن حزنها لما عاشته من خوف امتد طيلة 14 عامًا.

وأضافت مايا، “أتذكر المشهد كيف كان يتم إجبارنا على المشاركة بمسيرات للنظام في باحة المدرسة، كانت أختي بالصف الثالث في نفس المدرسة، والتي تعاني من تلعثم في الكلام، كنت أخاف عليها إن لم تردد مع الطلبة أن تعاقَب”.

ولم تكن هناك مدرسة تحت سيطرة النظام تخلو صفوفها من صور الأسد وابنه، وشعار حزب “البعث”، فطيلة حكم بشار، رافق نجاح الطلاب في كل عام صورته على وثيقة النجاح التي تعرف بـ”الجلاء المدرسي”.

 

 "الجلاء المدرسي" الذي كان يعتمد سابقًا في المدارس السورية خلال فترة حكم الرئيس المخلوع بشار الأسد (المنهاج السوري)

“الجلاء المدرسي” الذي كان يعتمد سابقًا في المدارس السورية خلال فترة حكم الرئيس المخلوع بشار الأسد (المنهاج السوري)

ولم يقتصر تمجيد عائلة الأسد على الأب والابن فقط، بل امتد للابن باسل الذي كانت حصته محفوظة في المرحلة الجامعية، فكان يمنح الطلاب المتفوقون والأوائل في جامعة “دمشق” شهادة تفوق تحت اسم “شهادة باسل الأسد للتفوق الدراسي”.

تينا خريجة إعلام، ذكرت ل أنها حصلت على هذه الشهادة، معبرة عن استغرابها بالقول، “تخيل أن تتفوق لتحصل فقط على شهادة تتذكر بها التمجيد لعائلة الأسد”.

وكانت تطمح عند تفوقها أن تساعدها الجامعة في الحصول على وظيفة أو تبادل خبرات مع إحدى الدول العربية، وليس حصولها على شهادة “لا تساوي شيئًا الآن”، بحسب تعبير تينا.

شهادة "باسل الأسد للتفوق الدراسي" في المرحلة الجامعية شهادة "باسل الأسد للتفوق الدراسي" في المرحلة الجامعية

شهادة “باسل الأسد للتفوق الدراسي” في المرحلة الجامعية

لم يتوقف حزب “البعث” عند شهادة “الباسل” فقط، بل امتد لاستخراج بطاقات انتساب للحزب في المرحلة الجامعية الأولى دون علم الطالب أو حتى أخذ رأيه بأن يكون عضوًا منتسبًا إلى حزب “البعث”.

“صدمتي كانت كبيرة عندما اكتشفت بالمصادفة، أن اسمي مدرج تحت قائمة الطلاب الجامعيين المنتسبين لحزب البعث”، هذا ما روته زينة الشامي ل، التي كانت تدرس في قسم العلوم السياسية بجامعة دمشق.

انتساب زينة لـ”البعث” ليس مجرد ورقة قانونية تعبر عن انتمائها للحزب، فعند متابعتها للموضوع لتعرف ما قصة انتسابها، اكتشفت أنها عضو عامل في الحزب (يقسم المنتسبون للحزب إلى أنصار وعاملين)، عندما قال لها أحد الموظفين في الجامعة، إن رسوم اشتراكها للأشهر الماضية مسددة بالكامل، وعليها فقط أن تدفع عن شهر إضافي.

ماذا عن المستقبل؟

“لا أريد أن يعيش أطفالي تجربتي في مدارس سوريا”، قال سعيد الحمصي (38 عامًا) ل، مضيفًا أن 54 سنة من حكم نظام الأسد كانت كافية لقولبة 5 أجيال لم تعرف إلا سياسة الحزب الواحد وتمجيد الحاكم.

يعبر سعيد عن خوفه على مستقبل طفليه البالغين من العمر 4 و7 سنوات، آملًا أن تكون خطوة حل الأحزاب هي النهاية لربط أي أحزاب بالمنهج التعليمي.

وبعد إعلان القيادة العامة في سوريا خلال “مؤتمر النصر”، في 29 من كانون الثاني الماضي، حل حزب “البعث” وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، يتساءل كثيرون حول أثر الماضي وأيديولوجيا الحزب على أطفالهم في المدارس، وكيف سيتغير كل هذا لديهم دون تفسير، باعتبارهم غير قادرين على فهم طبيعة التحولات.

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.

المصدر: عنب بلدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *