لم يكن أحد يتوقع أن ينتقل اسم أحمد الشرع، خلال أقل من عام واحد، من لائحة التنظيمات المصنّفة على “القوائم السوداء” إلى صف الزعماء الذين يطرقون أبواب العواصم الكبرى ويجتمعون بقادة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن. ما جرى في سوريا بين 8 ديسمبر 2024 ونهاية 2025 لم يكن تحوّلاً عادياً في سياق الدبلوماسية، بل كان انقلاباً في تعريف السياسة السورية نفسها، وفي طريقة مخاطبتها للعالم.

في قلب هذا التحوّل يقف وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، الذي خرج من أسرار الثورة إلى صدارة المشهد الدولي، حاملاً خطاباً مختلفاً، وأسلوباً لا يشبه دبلوماسية النظام السوري السابق ولا الشعارات التقليدية.

وفي هذا الحوار المطوّل، الذي ينشر في حلقتين، يفتح الشيباني صندوق الأسرار، من قرار “تحييد” الطيران الروسي في شمال غربي سوريا نهاية 2024، وصولاً إلى تهيئة الظروف للقاء التاريخي بين الرئيس أحمد الشرع والرئيس الأميركي دونالد ترمب برعاية سعودية منتصف 2025 وزيارة الشرع البيت الأبيض نهاية 2025.

منذ اللحظة الأولى، يرفض الشيباني وصف ما حدث خلال عام واحد بـ”المعجزة”. يقول بهدوء الواثق: “هناك استغراب من النجاح الذي تم تحقيقه من خلال الدبلوماسية السورية. أولاً كشخص أنا أعمل على موضوع العلاقات الخارجية منذ 2018 تقريباً… ورؤية الدولة كانت حاضرة لدينا في الذهن كيف ستكون سوريا في المستقبل وما مفاتيحها”.

هذا الوعي المبكر بأهمية بناء “مفاتيح” خارجية للمشروع السوري الجديد، هو ما سمح، وفق روايته، بأن لا تتحول سوريا بعد “التحرير” إلى جزيرة معزولة، بل إلى نموذج يسعى الآخرون إلى فهمه والتواصل معه. يضيف: “لا يمكن أن تتكلم عن مشروع يقود دولة ولا تكون له علاقات خارجية… الخارج أحياناً لديه مسلمات معلّبة على الفرد أن يتعامل معها. إذا كان أسيراً لهذه المسلمات أعتقد أنه سيفشل بشكل كبير جداً”.

ما يميّز دبلوماسية الشيباني في السياسة الخارجية أنها لا تستند إلى “المزايدة الثورية” ولا إلى “الابتزاز العاطفي”، بل تقوم على مزيج من الواقعية والمثابرة والتخطيط البعيد المدى. يختصر ذلك بجملة لافتة: “ربما لأول مرة نطرح دبلوماسية صادقة، فلا توجد مراوغة وكذب… نحن لدينا مصلحة وطنية، لدينا بلد مهدم، نريد أن تكون لدينا علاقات جيدة مع كل الدول وبالتالي يساعدوننا في هذه المرحلة ونحن نسير 1، 2، 3، 4”.

هذه “الدبلوماسية الصادقة”، كما يسميها، لم تبقَ مجرد خطاب، بل ترجمت سريعاً في سلوك العواصم. دول كانت تنظر إلى الملف السوري من زاوية أمنية بحتة، وجدت نفسها أمام قيادة جديدة “تفي بما تعد به”. يقول وزير الخارجية: “فالدول بدأت ترى أن هناك مصداقية كبيرة جداً، فما كان يحدثنا عنه الشيباني يحصل… رأوا أن هناك جدية، هناك كلام رجال، هناك التزام، هناك رؤية واضحة، وهذا أعطانا أولاً ثقة بالنفس، وثانياً أكد للطرف الآخر أننا طرف موثوق”.

لكن “العقدة الأصعب” لم تكن الاعتراف العربي أو الغربي، بل “العقدة الروسية”. موسكو، التي رسّخت حضورها العسكري في حميميم وطرطوس غرب سوريا، وكانت شريك النظام في قصف المدن، تحوّلت فجأة من “خصم ميداني” إلى طرف يجلس مع الشيباني وجهاً لوجه على معبر باب الهوى. هناك، تلقّى الروس واحدة من أكثر الرسائل صراحة في تاريخ العلاقات بين البلدين.

قبل تلك اللحظة، كان لا بد من “تشريح” الهزيمة. من سقوط حلب عام 2016 إلى هدنة سوتشي عام 2020، عاش السوريون أربع سنوات من الانكسار، لكنها تحولت إلى مادة تقييم باردة: لماذا انتصر النظام؟ أين أخطأت الثورة؟ كيف استغل الروس والإيرانيون نقاط الضعف؟ ولماذا وقفت فئات وطوائف مع النظام “مع أنها لا تستفيد شيئاً منه”؟

ضمن هذا التقييم، ظهر السؤال الحاسم: كيف يمكن تحييد سلاح الجو الروسي إذا قررت المعارضة إطلاق عملية جديدة؟ من هنا وُلدت فكرة “فك العقدة الروسية”: “كان علينا تحييد سلاح الجو الروسي من هذا الموضوع… فتوصّلنا إلى حل: ما مصلحة الروس في سوريا؟ هل مصلحته مع نظام بشار كنظام أم إنه يريد أن يحافظ على مصلحته مع سوريا؟”.

جوهر المقاربة الجديدة كان بسيطاً وجريئاً: روسيا أخطأت بالارتهان لشخص، ويمكنها صون مصالحها بالتعامل مع دولة. يروي الشيباني لقاء مفصلياً قائلاً: “انطلقنا من أنه لدينا اليوم كشعب سوري موقف من روسيا إلى جانب النظام، هذا موقف خطأ. هذا الموقف يمكن أن يتغير ويتعدل… لتكون الشراكة مع سوريا والشعب السوري ولا تكون مع نظام لا يمكن أن يُراهن عليه”.

ثم يطلق الجملة التي أصبحت لاحقاً مفتاح المقاربة مع موسكو: “قلنا جملة مفتاحية هم أخذوها في الاعتبار: إن إسقاط نظام بشار لا يعني خروج روسيا من سوريا”.

هذه العبارة لم تكن مجرد تطمين تكتيكي، بل إعادة تعريف للعلاقة: سوريا الجديدة مستعدة لعلاقة مع روسيا، لكن على أساس مصالح واضحة وعقد متوازن، لا اتفاقيات إذعان. يقول الشيباني بنبرة ناقدة: “اطلعت على اتفاقية حميميم بينهم وبين النظام. هي اتفاق من طرف واحد… نحن نعيد تنظيم هذه العلاقة ضمن مصلحة سوريا أولاً وآخرا. إذا كانت هناك مصلحة سنسير في الاتفاق، إذا لم تكن هناك مصلحة سورية فلن نمضي بالاتفاق… أنا لن أتركهم ديكوراً”.

وهكذا، بدل استثمار لحظة التفوق العسكري للتشفي أو الإهانة، اختارت القيادة السورية الجديدة مساراً آخر: لا انتقام، بل إعادة تموضع عقلانية. لا خطاب عن “طرد روسيا من المنطقة”، ولا تكرار لمنطق المحاور الذي دمّر البلاد، بل محاولة لاستخدام براجماتية موسكو نفسها. يقول الشيباني: “أرى أن الموقف الذي اتخذوه كان موقفاً ذكياً بصراحة، أذكى من الإيرانيين بكثير وبراجماتياً أكثر… نحن نحاول أن نتجاوز ما يمكننا تجاوزه… أين إشارة المصلحة السورية سنحوّل عليها”.

بهذه المقاربة، يتجاوز الشيباني مجرد مهارة التفاوض. هو يصوغ شبكة توازنات جديدة: مفاوض ندّي مع الروس، تنسيق مع الأتراك، انفتاح على أوروبا، ثم تمهيد، مع الرئيس الشرع، لتحوّل أكبر باتجاه الخليج والولايات المتحدة.

في الحلقة الأولى من هذا الحوار الذي جرى في لندن في 13 نوفمبر 2025، نطلّ على “العقل الدبلوماسي” الذي فكّك “العقدة الروسية” وأوقف، كما يروي، مساراً كان يمكن أن يجرّ سوريا إلى معارك مدمرة في قلب دمشق.

في الحلقة الثانية، ننتقل إلى المحطة التي غيّرت موقع سوريا في العالم: زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى السعودية، اللقاء المفصلي مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ثم الجلوس التاريخي في البيت الأبيض مع الرئيس دونالد ترمب، حيث تحولت العلاقة من “شروط أميركية” إلى “رهان دولي” على سوريا جديدة، تحاول أن تكون، كما يقول الشرع، “بلداً يليق بالسوريين”.

وهنا الحلقة الأولى:

في 7 ديسمبر 2024 كان الرئيس أحمد الشرع و”هيئة تحرير الشام” مصنفين بالقائمة السوداء، ولم يكن هناك اعتراف بكم من أي طرف لا عربي ولا غربي ولا حتى بالأمم المتحدة. الآن نحن في نهاية 2025، ومع بداية العام الجديد، يكون الشرع قد التقى كل قادة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن. هناك نقلة دبلوماسية هائلة حصلت خلال سنة كيف تفسر هذا الأمر؟ كيف حصل؟

أولاً، أهلاً وسهلاً بك. هناك استغراب من هذا الموضوع، ربما أنا شخصياً لست مستغرباً كثيراً. لا أعرف لماذا، لكن هناك استغراباً من النجاح الذي تم تحقيقه من خلال الدبلوماسية السورية. أولاً كشخص أنا أعمل على موضوع العلاقات الخارجية منذ 2018 تقريباً، وليس من الآن. وكان لدي وصول إلى دول كثيرة بهذا الإطار، ورؤية الدولة كانت حاضرة لدينا في الذهن كيف ستكون سوريا في المستقبل وما مفاتيحها.

الدبلوماسية السورية تتعامل بشكل واقعي. استطاعت أن تستفيد من الأخطاء التي حصلت بتجارب بعض الدول وأيضاً استطاعت أن تحدد خطة كانت واضحة

 

بالتأكيد لا يمكن أن تتكلم عن مشروع يقود دولة ولا تكون له علاقات خارجية، بالتالي أنت هكذا تتكلم عن جزيرة ليس لها أي تواصل مع الخارج، فالخارج أحياناً لديه مسلمات معلّبة على الفرد أن يتعامل معها. إذا كان أسيراً لهذه المسلمات أعتقد أنه سيفشل بشكل كبير جداً. وهناك مسألة المثابرة وإيجاد أدوات جديدة للتأثير في الخارج.

التغيير كان مفاجئاً؟

التغيير الذي حصل في 8 ديسمبر 2024 كان بحد ذاته تغييراً مفاجئاً للشعب السوري وأيضاً للدول، سواء كانت دولاً مهتمة في سوريا أو غير مهتمة، لكن التغيير كحدث بحد ذاته ليس عادياً أبداً. فهذا الأمر الذي لفت النظر إلى أن هناك شيئاً يحدث بسوريا، وكيف حدث فيها التغيير بهذه السرعة. ثم بدأت العلاقات بشكل سريع جداً. هذا الانطلاق باتجاه الخارج، سواء استقبال وفود أو مسألة التعامل “engagement” (الانخراط) مع الداخل والخارج خاصة مع صناع القرار في المنطقة.

بالتأكيد في البداية كان هناك بعض التحفظ، من نوع مَن هؤلاء الجماعة؟ من أين أتوا؟ أي تغيير كان بالتأكيد سيشوبه بعض الأسئلة أو الاستفسارات وما إلى ذلك. لكن هذا الأمر كان يُزال خلال الجلسة الأولى، يُزال عند سماع الطرح الذي تمثله القيادة السورية حالياً أو العقل، الرؤية الموجودة. فتخيل واحداً كان يسمع عن “أبو حيدر” أو بشار ثم يسمع رؤية وطنية أولاً. ثانياً، أيضاً هي منفتحة على الخارج وصادقة مع الخارج.

وربما لأول مرة نطرح دبلوماسية صادقة، فلا توجد مراوغة وكذب، دبلوماسية واضحة جداً. نحن لدينا مصلحة وطنية، لدينا بلد مهدم، نريد أن تكون لدينا علاقات جيدة مع كل الدول وبالتالي يساعدونا في هذه المرحلة ونحن نسير 1، 2، 3، 4 (بخطوات محددة) هذا كان الرصيد الذي نتكلم عنه في بداية التحرير. ثم بدأنا نسير في منتصف الطريق، واليوم نحن بعد 11 شهراً، فالدول بدأت ترى أن هناك مصداقية كبيرة جداً فما كان يحدثنا عنه الشيباني يحصل، تحدث إلينا عن أمر معين وحصل، حدثنا عن مسألة وحصلت. كذلك الجماعة (الحكم الجديد) واجهوا تحديات تعاملوا معها برباطة جأش، مثل التحديات التي حدثت في الداخل السوري، مسألة “داعش”، مسألة “الفلول”، مسألة المطبات السياسية، مسألة كيفية إزالة العقوبات.

يعني كل حركة نقوم بها وراءها فريق كبير جداً سواء من الخارجية أو من الدولة السورية، فيها تفاصيل، فيها كواليس. الناس تشاهد اللقطة الأخيرة لكن وراءها شد الأعصاب وما إلى ذلك، هذه موجودة. ورأوا أن هناك قدرة أيضاً على إدارة المرحلة بطريقة ليست فيها “مراهقة”، إن جاز التعبير، بالتعامل مع هذه الدولة، أو ليسوا أشخاصاً جدداً على الأمور بحيث لا يقدرون الموقع الذي هم فيه، أو هناك سذاجة أو بساطة وما إلى ذلك. على العكس، رأوا أن هناك جدية، هناك كلام رجال، هناك التزام، هناك رؤية واضحة، وهذا أعطانا أولاً ثقة بالنفس، وثانياً أعطى للطرف الآخر “قناعة” بأن هذا الطرف موثوق.

وأول زيارة خارجية كانت إلى السعودية؟

اليوم الدبلوماسية السورية باختصار تتعامل بشكل واقعي، وتتعامل بشكل مثابر بشكل كبير جداً. استطاعت أن تستفيد من الأخطاء التي حصلت بتجارب بعض الدول وأيضاً استطاعت أن تحدد خطة كانت واضحة.

نحن لا نزهد بأي علاقة مع أي دولة، مع أي طرف، مع أي حدث معين، مع أي فعالية يمكن أن تخدم سوريا

نعم، أول وجهة لنا كانت السعودية ثم شاركنا في الأمم المتحدة، ورفعنا العلم بالأمم المتحدة، شاركنا مثلا بكل مؤتمر حتى لو لم نكن جاهزين تماما كنا نذهب ونشارك فيه. فبالتالي في أول زيارة لم تكن سوريا موجودة أصلا ثم أصبحت موجودة وأصبحت أيضاً فاعلة، وهذا حوّل سوريا من شكل غريب أو مستهجن إلى شكل نتعرف عليه، إلى شكل نتفاعل معه، إلى شكل محبوب، إلى مثال دعونا نتشارك معه لأنه يبدو أنه يمكن المراهنة على هذا النموذج.

هل كنت ترى ذلك في 26 نوفمبر 2024 أي قبل إطلاق عملية “ردع العدوان”؟ هل كنت ترى الموقع الذي ستصلون إليه قبل نهاية عام 2025 أن أحمد الشرع سيكون رئيساً ويلتقي الرئيس الأميركي دونالد ترمب؟ هل كنتم ترون كل هذه الخطوات إلى هذا الحد؟

كنا نرى ذلك، لكن الأحلام وحدها لا تكفي. كنا نرى ذلك لكننا أيضاً عملنا بجد حتى نصل لهذه المرحلة. الأحلام وحدها لا تحقق إنجازات فبالتالي كنا نعتمد على العمل فنعمل بجد حتى نحصل على علامات، مثل كل حراكنا إلى اليوم. مثلاً أمس كنا بواشنطن واليوم نحن في لندن لم نسترح ولم نقل “خلاص يا جماعة”.

وزيارة إلى الصين..

نعم، الصين، فنحن لم نعتبر أننا طالما وصلنا إلى واشنطن يمكن أن نأتي إلى لندن الشهر المقبل فلماذا الاستعجال، على سبيل المثال. نحن لا نزهد بأي علاقة مع أي دولة، مع أي طرف، مع أي حدث معين، مع أي فعالية يمكن أن تخدم سوريا. فهذه المثابرة تعطيك نتائج، والعالم اليوم يبدو أنه متعطش بصراحة لإيجاد مثال ناجح يزيل عنه ولو قليلاً مسألة الإحباط التي نعيشها خاصة في الدول العربية. وأيضاً إنه مثال يغير الصورة التي تم تكريسها حول سوريا من خلال النظام البائد، هذا النظام المتحجر ليس هناك أي منطق معه، يريد أن يمسح أوروبا عن الخريطة، ولا أعرف ماذا كان يريد أن يفعل غير ذلك، منغلق عن الدنيا كلها ورأس كبير “على الفاضي” على سبيل المثال. الناس تحب سوريا فإذا وجدت أن في سوريا أيضاً من يمثلها بشكل جيد، وربما يكون هناك شخص أحبه وفي الوقت ذاته أستفيد وأربح، بالعكس تكون أحسن تجارة صراحة.

لا نستسلم. يعني يمكن أن نخسر لا مشكلة لكن لا نستسلم، بل نعود لنقيّم أنفسنا أين أخطأنا وما كان يفترض أن نعمل

 

“العقدة الروسية”

إحدى العقد الأساسية كانت موضوع روسيا. روسيا مثلما تقول أنت أو الرئيس الشرع دولة مهمة عضو بمجلس الأمن وما إلى ذلك، لكنها كانت موجودة بسوريا وكانت إلى حد ما تقوم بقصف الشعب السوري. كيف فككتم العقدة الروسية؟ طبعاً أنا شاهدت مقابلاتك السابقة وما ذكرته عن أنه حصل اتصال. هل يمكن أن تحدثنا أكثر كيف تم هذا الأمر لنقدم تفاصيل إضافية عن كيف فككتم العقدة الروسية؟

كانت هناك مرحلة تقييم: لماذا هزمنا؟ في عام 2016 عندما سقطت حلب وبدأت الثورة السورية تنهار في عام 2019-2020 كانت أكبر خسارة، خسارة كبيرة جداً في عام 2020 عندما جرت هدنة في شهر مارس في سوتشي عام 2020 في شهر مارس عن طريق الاتفاق بين تركيا وروسيا فكان تقريباً الإحباط في ذروته. فأولاً، فخامة الرئيس (الشرع) عوّد من يعمل معه، لن أقول إنه لا يعرف الهزيمة، لكن أن لا نستسلم. يعني يمكن أن نخسر لا مشكلة لكن لا نستسلم، بل نعود لنقيّم أنفسنا أين أخطأنا وما كان يفترض أن نعمل… اليوم التالي لا يهمنا كثيراً بصراحة بل نسير مباشرة نحو كيفية معالجة الموضوع. عندما حصل تقييم للثورة نحن لماذا في 2020 هزمنا هزيمة ساحقة جداً يعني بصراحة.

عندما حصلت خسارات في ريف إدلب؟

غير إدلب… لم يبق لدينا شيء، وخسرنا الغوطة (قرب دمشق) ودرعا وحمص كانت خسارة كبيرة بين 2016 و2020، خلال أربع سنوات خسرنا خسارة كبيرة جداً. كنا نشرّح حالة النظام، كيف استطاع النظام أن يستعيد (مناطق)، هو استغل نقاط ضعف لدينا، استغل حالة معينة لدينا، استغل مثلاً التدخل الروسي لصالحه، استغل أطرافاً معينة، فهذا كله كان بالتحليل.

حتى على سبيل المثال، لماذا هناك جزء من الشعب السوري حتى الآن لا يزال موقفه رماديا مثلا؟ أو لم يختر أن يكون ضد النظام أو أنه يوجد جزء ليس من النظام أيضاً مع النظام، حتى هذا الموضوع مثلا، لماذا هناك طوائف وقفت مع النظام مع أنها لا تستفيد شيئا من هذا النظام بصراحة. ما يتوجب علينا فعله حتى لا تختبئ هذه الطوائف وراء النظام أو لا تحتشد وراءه ولا يستفيد منها النظام حتى لو سياسيا، وما إلى ذلك. فكل هذه التفاصيل كنا نناقشها بيننا خاصة مع الرئيس، ومنها كان الروسي. فأنت اليوم إذا أردت أن تعمل أي تغيير في سوريا بعيدا عن سلاح الطيران إن شاء الله الأمور محسومة، مهما كانت قوة النظام. النظام لديه إمكانيات ضخمة لكن ليست لديه عقيدة وفي الوقت ذاته ليس لديه صبر طويل بالمواجهة بصراحة، فكان دائما يكسب بالتفوق الجوي يدمر مدينة ثم يتقدم نحوها كمشاة.

وضعنا خياراً… في ذلك الوقت في 2024 كان تقريباً عندنا إغراء أن الإيراني لا يمكنه أن يفعل أي شيء لنظام بشار (نظرا) للوضع الذي يمر به على سبيل المثال، فبالتالي بنسبة جيدة لن يكون هو في المعادلة أو إذا كان في المعادلة فلن يكون بفعاليته ذاتها سواء في 2015 أو في 2020.

في منتصف المعركة (بعد إطلاق عملية “ردع العدوان”) رأى الرئيس أن هذا الوقت مناسب للتحدث مع الروس بعد أن أصبحت الكفة تميل

وهناك الروس..

كان الروسي هو النشط وكان هناك رصد لمطار حميميم حيث كان هناك سرب من الطائرات ولدينا التصوير، كنا صورنا كل شيء وهناك حوالي عشرين طائرة، إذا فقط تم تفعيل هذه الطائرات سيدمرون لك الوضع كله. خاصة أنه في 2024 كان هناك تجربة “حكومة الإنقاذ” (التابعة للمعارضة في إدلب) التي هي أيضاً جاءت مع تنمية اقتصادية فإدلب تغيرت والناس أنشأت مدنا صناعية، وأصبحت هناك مدن سكنية، وكانت هناك فترة بين 2020 و2024 فالناس شعرت بالهدوء.

أطول هدنة كانت في سوريا هي 2020-2024 فإن كنت تريد إعادة خيار القصف ستكون تلك بصراحة حركة انتقالية صعبة. فكان علينا تحييد سلاح الجو الروسي من هذا الموضوع. فتوصلنا إلى حل: ما مصلحة الروس في سوريا؟ هل مصلحته مع نظام بشار كنظام أم إنه يريد أن يحافظ على مصلحته مع سوريا أم يستفيد من هذا الموقع لخدمة مصالح معينة أم أن يكون له وجود؟ فعلى هذا الأساس نحن وضعنا له خطة لذلك حتى جبهة المواجهة تم تحييدها، تم الابتعاد عن الجبهات التي يكون فيها الروس فتم الابتعاد عن جبهة الساحل، الابتعاد عن بعض الجبهات التي كان فيها الروس وتوجهنا إلى جبهة بعيدة جداً، منطقة الشيخ عقيل التي كان فيها النظام مع بعض الإيرانيين. في منتصف المعركة (بعد إطلاق عملية “ردع العدوان”) رأى الرئيس أن هذا الوقت مناسب للتحدث مع الروس بعد أن أصبحت الكفة تميل.

بعد السيطرة على حلب؟

بعد السيطرة على حلب نعم، ومع بداية العمل (الهجوم) على حماة يعني خلال تلك الفترة تقريباً، كان يمكن أن يستمع أحد إليك. طبعا حينها بدأ قصف شديد جداً على إدلب وإدلب نزحت، وحلب أيضاً بدأ فيها قصف شديد جداً. وحتى كنا حينها نستغرب أن النظام والروس يقصفون مدينة هي كانت بالأمس معهم. أنت مثلا تقصف مدينة مثل إدلب منشقة عنك منذ 2015 كلها ثوار لا تريدهم، أما أن تقصف مدينة كانت بالأمس معك وجماعتك، ولا تزال موجودا فيها، ما الفرق بين الأمس واليوم لتقصف هؤلاء الناس الذين كنت بالأمس تحكمهم؟ فهذا يدل على عقلية إجرامية يمتلكها النظام لا يرى الناس ولا يمثلون شيئا في حساباته والشعب آخر همه بصراحة. عندما تكلمنا مع الروس كان هناك…

لم نتكلم مع القاعدة الروسية، تحدثنا مع جهة عليا كثيرا لن أفصح عنها ولكن كأني كنت أتحدث مع (الرئيس فلاديمير) بوتين

 

هذا يهمني. هل يمكن هنا الحصول على تفاصيل أكثر؟ مع من تحدثت مثلاً؟ تحدثت مع القاعدة الروسية؟ تحدثت مع مسؤول سياسي؟

لم نتكلم مع القاعدة الروسية، تحدثنا مع جهة عليا كثيرا لن أفصح عنها ولكن كأني كنت أتحدث مع (الرئيس فلاديمير) بوتين.

أنت أم عبر الأتراك؟

أنا بشكل مباشر.

أرجو أن تشاركنا أقصى ما يمكنك البوح به فهذا تفصيل مهم.

أولاً طبعا نحن أصدرنا بيانا في حينه، وبعد أن أصدرنا هذا البيان سمعنا في ذلك الوقت أن بوتين قرأ البيان، إذ أخبرتنا جهة أن “بوتين قرأ البيان وأعجب به”. وصلتنا هذه الكلمة و”نحن مكملين” لكن ورود هذه المعلومة ما معناه، معناه أن الصنارة…

شبكت..

الصنارة شبكت، ما يعني أن الرسالة التي بعثت بها وصلت. بعدها حدث اللقاء وخلال اللقاء جرى حديث عن…

 

لقاء سياسي وليس عبر اتصال هاتفي؟

– لا، وجها لوجه. لقاء في معبر باب الهوى، هم جاءوا إلى باب الهوى لقاء وجها لوجه (face to face). جرى الحديث وأولاً نحن لم ننطلق معهم من منطلق هل رأيتم الخسارة التي ألحقناها بكم لم نتطرق إلى ذلك مطلقا.

من الحكمة عدم إهانة الروس..

– انطلقنا من اليوم كشعب سوري، نحن شعب سوريا اختار التغيير وكان هناك موقف (من روسيا) إلى جانب (النظام) هذا موقف خطأ. هذا الموقف يمكن أن يتغير ويتعدل ويمكن ترميمه في المستقبل لتكون الشراكة مع سوريا والشعب السوري ولا تكون مع نظام لا يمكن أن يُراهن عليه.

وفي ذلك الوقت أخبرتهم كم مرة ستعيدون حلب للنظام إذ إن روسيا هي التي أعادت حلب له في 2016. قلت لهم أنتم كم مرة ستعيدون حلب للنظام؟ ابنك اليوم إذا كان يلعب في الشارع ومعه طابة (كرة) وأحدهم أخذ طابته فلن تشتري له غيرها أليس كذلك؟ أو توبخه على أنه سمح بأخذ الطابة منه ولن تشتري له غيرها. فأنت أعدت إليه حلب واشتغلت فيها وأسأت إلى سمعتك الدولية مقابل إعادة النظام، والنظام انسحب وترك المنطقة فالشراكة مع هذا النظام اليوم فيها الكثير من الوهم، هذا أولاً. وثانياً، اليوم إذا كانت هناك مصالح حقيقية لك في سوريا فيمكن تنظيمها من خلال الحكومة الجديدة، تكون على أسس وطنية ولا تكون على أسس لا صفقات ولا ميليشيات لأن هذه الأمور تكون دائما مؤقتة ومرتبطة مع النظام الموجود ولا تكون مرتبطة مع الشعب. على سبيل المثال هم أقاموا اتفاقا مع النظام لمدة 45 سنة…

كنا نتوقع حصول معركة قوية جداً في دمشق خاصة في القلمون وغيرها، فهي مناطق حصينة جداً، لكن الحمد لله حدث انهيار

 

49 سنة، ثم تم تمديده بحيث أصبح دائما..

– عندما سقط النظام تلاشى الاتفاق، ما يعني أنه لم يكن موثقا ببرلمان سوري ولا موثقا مع الدولة السورية، أنت أقمت اتفاقا مع عصابة وهذه العصابة عندما غادرت ذهب معها الاتفاق.

ركزنا على الخطاب العقلاني والمصلحي معه صراحة، وأن نتجاوز هذه المرحلة ونسير لنجعل السوريين يرتاحون.

هل كنتم واثقين أن النظام سيسقط؟

– نعم، كانت هناك ثقة. رغم وجود تدهور وانهيار. ثم تفاوضنا على مسألة القصف، نحن نستطيع أن نضرب القواعد ونستطيع أن نضرب الأماكن لكننا تجاوزناها (ولم نقصف). لكن هناك قصفا حاليا على إدلب وقصفا على حلب يجب أن يتوقف.

وقلنا جملة مفتاحية هم أخذوها (بالاعتبار): “إن إسقاط نظام بشار لا يعني خروج روسيا من سوريا”. جملة كانت مفتاحية، جملة واحدة مفهومة المعنى بحيث لا تربط نفسك مع بشار. بشار زائل لكن هناك حكومة موجودة تبني معها.

فاتفقنا على عدة أمور منها أن لا يحصل تجييش سياسي بمعنى أن لا يفزعوا الدنيا علينا بإجراء جلسات في مجلس الأمن وما إلى ذلك، ولا يكون هناك تحريض إعلامي على التغيير الذي يحصل، ولا يحصل قصف للمدن، وتعقد لقاءات في المستقبل عندما ننهي الموضوع، ومسألة إذا أرادوا الانسحاب من مكان لآخر يمكننا مساعدتهم، نتيجة الانهيارات التي ستحصل، وهناك موضوع يمكن أن يساعدونا فيه أيضاً بحيث يقولون للنظام إن الأمور منتهية… نحن لم نكن نريد أن تحصل معركة في دمشق لأنه إذا حصلت معركة في دمشق سوف تهدم دمشق لأنها لا تتحمل قذيفتين أو ثلاث تصبح دمشق القديمة على الأرض.

هذا شيء تاريخي، صعب جداً أن تستعيده مرة ثانية بل مستحيل. فنحن لم نكن نريد أن تحصل معركة. كنا نتوقع حصول معركة قوية جداً في دمشق خاصة في القلمون وغيرها فهي مناطق حصينة جداً، لكن الحمد لله حدث انهيار.

هم أبلغوا النظام؟

– لا نعلم لكننا ذكرنا لهم تلك الكلمة، ووجدت أنهم في نهاية اللقاء سألوني: أنتم تتوقعون الوصول إلى دمشق؟ فأجبت بالتأكيد. واستفسروا خلال كم من الوقت؟ قلت 48 ساعة. حتى إنني قلت له إنني لست عسكريا لكن من خلال استقرائي للموضوع، فأنا موجود ضمن الحدث، من خلال استقرائي أعتقد 48 ساعة، لكنني لست عسكريا ولا أعرف. لكن ما ذكرته لك حسب قراءتي للوضع وما لدي من معلومات. أعتقد أنهم عندما سمعوا هذه الكلمة بدأوا يسحبون أمورهم من دمشق. وعندما سحبوا أمورهم من دمشق، فمن سمع بذلك ومن رآهم من جماعة (بشار) حصل انهيار لديهم. إذ طالما أنهم ينسحبون فذلك يعني أن لديهم معلومة أن الجماعة سيصلون دمشق، مع أننا في حينه كنا لا نزال في حماة.

الأمر الأساسي الذي يجب أن يكون شعبنا واثقا منه أننا نعيد العلاقة مع روسيا على أساس أن تكون هناك علاقة منتظمة ومحترمة

 

لكن بغض النظر، أرى أن الموقف الذي اتخذوه كان موقفا ذكيا بصراحة أذكى من الإيرانيين بكثير وبرغماتيا أكثر. والدول والدنيا تسير وفق ذلك.

هناك بعض الدول مثلا تدعو إلى إخراج روسيا، هم مر على وجودهم في سوريا عشر سنوات كان يإمكانكم أن تخرجوهم أنتم. أما أنا فقد وصلت بإمكانياتي البسيطة وأنا لدي اليوم تحد كبير جداً لإعادة بناء سوريا وتريدون توريطي مع الجماعة ولو كنتم ساعدتموني وقتها ربما كانت الأمور مختلفة. نحن في هذه المرحلة نحاول أن نتجاوز ما يمكننا تجاوزه. هناك المثل بالإنكليزية “لا تستطيع الإمساك بأرنبين”.

وهناك مثل مشابه باللغة الإنجليزية “لا يمكنك أن تحصل على الكعكة وأن تأكلها أيضاً”.

نفس المعنى، لأنني لا أستطيع أن “أمسك الأرنبين” في نفس الوقت. يجب أن تركز على الأرنب الذي تريده، نحن نركز على إعادة الإعمار، أي علاقة تعكر هذا الموضوع نحلها. أي علاقة تطور هذا الموضوع نتمسك بها. أي إرث معين سابق نبكي فيه على الأطلال ونبقى نعيش في الماضي نحن لسنا (في هذا الوارد). اليوم هناك فرصة ننظر فيها للمستقبل، لا نريد العودة للموضوع، لا نريد العودة لأمور معينة.

دعني أسألك سؤالاً عن روسيا لأن لدينا بعد ذلك أسئلة عن السعودية وأميركا ضمن ما يتيح وقتكم.

– حتى الآن لا يوجد أي اتفاق مع روسيا.

ما مستقبل القاعدتين في حميميم وطرطوس؟

– حقيقةً حتى الآن ليس هناك أي اتفاق مع روسيا، هناك مفاوضات حاليا لا أستطيع كشف تفاصيلها.

يمكنك أن تقول فقط هذه الجملة.

– حتى الآن لا يوجد اتفاق نهائي، هناك مفاوضات جارية. الأمر الأساسي والذي يجب أن يكون شعبنا واثقا منه إن شاء الله أننا نعيد العلاقة مع روسيا على أساس أن تكون هناك علاقة منتظمة ومحترمة أقل شيء. لأنني اطلعت على اتفاقية حميميم بينهم وبين النظام. هي اتفاق من طرف واحد.

إذعان كامل..

– الطرف الثاني (السوري) غير موجود، لا يحق له أن يشتكي عليه ولا أن يتحاكموا، وهذا أحد البنود مثلا. نحن نعيد تنظيم هذه العلاقة ضمن مصلحة سوريا أولاً وآخرا. إذا كانت هناك مصلحة سنسير في الاتفاق، إذا لم تكن هناك مصلحة سوريا فلن نمضي بالاتفاق. اليوم لا أريد أن أضعهم ديكورا. لو أنني مستفيد من وجود هاتين القاعدتين لمصلحة سوريا فسيكون هذا الأمر. أنا اليوم أرى أنه ليس لهاتين القاعدتين أي دور، فقط أضعهم ديكورا، أنا لن أتركهم ديكورا، هذا باختصار.

غدا حلقة ثانية وأخيرة:

أسعد الشيباني لـ”المجلة”: لن نوقع اتفاقا مع إسرائيل دون الانسحاب إلى خط 7 ديسمبر

هذا المحتوى نقلاً عن “المجلة”

شاركها.