يٌعدّ المستشار والروائي أشرف العشماوي، أحد أبرز الأصوات في السرد العربي المعاصر. إذ استطاع تقديم مشروع أدبي مميّز يوظّف فيه التاريخ لبناء عالم روائي. وفي أحدث رواياته “السيمفونية الأخيرة”، يفتح الكاتب باباً جديداً يقدّم فيه كواليس المراسم الرئاسية وما يدور خلف الصورة البرّاقة، من خلال شخصية سامي عرفان.
“الشرق” التقت الكاتب أشرف العشماوي، الحاصل على جائزة كتارا عام 2023، في حوار بعد ساعات من إعلان اسمه ضمن القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب، للحديث عن روايته الجديدة.
ما شعورك بعد وصول “مواليد حديقة الحيوان” إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد؟
سعيد طبعاً فهي المرة الأولى التي أصل فيها إلى قائمة الشيخ زايد، كما أنها المرة الأولى التي أكتب فيها “نوفيللا” وتصل للقائمة الطويلة. أعتقد أن الوصول للقائمة الطويلة أو القصيرة جائزة بحد ذاته، فالجوائز مهمّة معنوياً ومادياً للكاتب، لكنها في الوقت نفسه عبء وتضع على عاتقه مسؤولية.
كيف ولدت شخصية سامي عرفان في “السيمفونية الأخيرة” وهل هي شخصية واقعية؟
أنا من المؤمنين بما يسمى “لعنة الجوائز”؛ فالكاتب حين يحصل على جائزة كبيرة، ويصبح تحت الأضواء، عادة يصيبه الفشل في العمل التالي، وأحياناً يظل الفشل مصاحباً له بقية حياته. حينما حصلت على جائزة كتارا في دورتها التاسعة، وكانت المرة الأولى والأخيرة التي تشرف عليها منظمة اليونسكو، بدأ هاجس الخوف من تأثير الجوائز يكبر بداخلي، وتحول إلى “وحش”.
بقيت أكتب وأحتفظ بالأعمال في الدرج، وكنت أعمل على رواية فيها خط التشريفات والمراسم، لكن أحداثها تدور في عصرين متوازيين هما الخديوي إسماعيل والوقت الحالي. حينما وصلت إلى ربع الرواية وجدت أنها لم تقدّم صراعاً، أيضاً الشخصية الرئيسية في عصر الخديوي كانت أقوى وأكثر وضوحاً، فقررت فصل القصتين.
أخذت الشخصية الثانية “سامي”، وهي روائية وخيالية تماماً لا وجود لها في الحقيقة. وعندما بدأت كتابتها كان لاعب رياضة الشيش، لكن زيارة لحفل في دار الأوبرا المصرية غيّرت الشخصية.
لاحظت أن الفرقة لم يكن فيها سوى عازف وحيد للكمان، ومن بداية الحفل وجدتني أرى سامي عرفان بكل تفاصيل الرواية حتى النهاية، كما لو كان كل ما أفكر فيه في اللاوعي ظهر في هذا الحفل. عندما عدت للبيت جلست حتى صباح اليوم التالي أدوّن النقاط التي سأعمل عليها، ولمدة شهرين كنت أكتب بمعدل 9 ساعات يومياً، حتى انتهيت من المسوّدة الأولى للرواية.
تذكر الرواية الكثير عن عالم المراسم الرئاسية فما هي المصادر التي اعتمدت عليها؟
مهنة المراسم غامضة على الناس، ويخلطون بينها وبين حراسة الرئيس، وهي عادة يكون عدد أفرادها أكبر. بينما المراسم شخصاً أو شخصين وبينهما دائماً تواصل بصري، لكن واحداً منهما فحسب يتواصل مع الرئيس بصرياً. وفي الرواية هو سامي عرفان.
ولأن هذا العالم لا توجد عنه معلومات مكتوبة وموثّقة، لذلك تواصلت بشكل مباشر مع شخصيات عملوا في المراسم مع الرؤساء عبد الناصر والسادات ومبارك، وكل منهم أدخلني إلى جانب من هذا العالم. أصبح لدي حصيلة ضخمة من النوادر والحكايات، لكني أردت التركيز على أنها رواية نفسية، الأساس فيها سامي، بينما يظل المسرح السياسي والشخصيات السياسية في الخلفية.
سامي عرفان شخصية مركّبة نفسياً. ما مدى صعوبة كتابة هذه الشخصية؟
أتقمص الشخصية نفسياً أثناء الكتابة، وسامي شخصية معقّدة، تأثّر بشكل كبير بسيطرة جدته عليه، وتدخل الآخرين في تحديد مساره طوال الوقت. كما أنه يجد نفسه محروماً دائماً من كل ما يحبه حتى العزف على آلة الكمان.
خلال كتابة المسوّدة الأولى، كنت سعيداً رغم الإرهاق، لكن بمجرد الانتهاء من الكتابة كنت أشعر بأن مزاجي سيئ، وظل لدي هذا الإحساس لأكثر من عام. سامي شخصية رمادية داكنة وهو ضحية، لكنه أيضاً مجرم، وعنيف لكن لا يُقدم على العنف الجسدي. هذه التركيبة النفسية تمنح الكاتب بالفعل مساحة كبيرة للقيام بالتحوّلات، وهو ما حدث مثلاً في انتقال سامي للعمل من المراسم، للجهاز الأمني ثم العزف على الكمان.
المسرح السياسي في الرواية كان قريباً زمنياً وكذلك الأحداث المذكورة مثل اغتيال السادات ومحاولة اغتيال مبارك. كيف تعاملت مع هذه الوقائع؟
الصعوبة تكمن في معرفة القارئ بهذه الأحداث، وربما شاهدها، وأول سؤال سيطرحه ما الجديد فيما يقدمه الكاتب؟ في المقابل أول ما أفكر فيه هو كيف سأدهش القارئ بمهنة سامي وبجرعة كبيرة عن كواليس صناعة القرار.
وبالنسبة للحادثتين، فهي المرة الأولى التي يتم التعرض لهما روائياً. فمزجت الخيال بالمعلومات الأصلية والموثقة، وحكايات الشخصيات التي شهدت أحداث المنصّة، وأديس أبابا والذين التقيت ببعضهم. وفي النهاية أنا أكتب عن شخصية سامي عرفان الخيالية، لذلك كنت منتبهاً- رغم الإغراءات- لعدم الوقوع في فخ التوثيق لأني أقدّم عملاً روائياً.
تناولت كواليس اللحظات الأخيرة لتنحي الرئيس مبارك. كيف كتبت هذا الفصل وهل يستند إلى وقائع حقيقية؟
الفصل كله متخيّل. الحقيقة أني جلست مع شهود حضروا تفاصيل الـ 18 يوماً بالكامل داخل القصر الرئاسي، وهي تفاصيل جذابة جداً روائياً ودرامياً، لكن لا يمكن إثباتها. لذلك اخترت الخيال والرمزية.
استبدلت كرسي الحكم مثلاً بالكرسي المتحرك، ومغادرة القصر بهليكوبتر تحلق فوق الشعب الذي تعرّض للضغط ثلاثين عاماً. بينما كان الطيران خلال الحرب على الإسرائيليين سبباً في وصول مبارك للحكم. كذلك في اعتقال سامي عرفان لشخصية باهر 16 عاماً، رغم أنه لم يقتله، لكنه تسبب في فقدانه للبصر. الرمزية أيضاً كانت في عدم وضعي اسم لابن باهر سعيد حتى الصفحات الأخيرة للرواية، لأنه بالنسبة لي رمز للجيل الجديد كله.
مشروعك الأدبي الذي تعكسه أعمالك هو توثيق التاريخ من خلال الرواية في فترة ما قبل ثورة يوليو وحتى 2011. لماذا تركز على هذه الفترة؟
يظن البعض أنني أتعمّد الكتابة عن فترة الملك وهو غير صحيح. أربع روايات فقط من أعمالي تدور في هذه الفترة، وهو أمر غير مقصود، لكن الفكرة تقودني. فمثلاً إذا كانت الفكرة أن الحياة تشبه المزاد، فطبيعي سأذهب لعالم المزادات واليهود الذين سيطروا عليها. وبالتالي سأركز على الفترة من 1900 – 1970، وفي السيمفونية الأخيرة كانت الفكرة تقودني للكتابة عن موضوع معاصر.
في “السيمفونية الأخيرة” حضرت شخصية الرئيس مبارك. ما الذي حرصت على إبرازه في شخصيته في الرواية؟
مبارك مرتبط بشخصية روائية خيالية وهي سامي عرفان؛ وبالتالي الحوارات والعلاقة الإنسانية وحتى علاقة المرؤوس برئيسه هي خيال بالكامل. انتقيت لقطة محددة من شخصية مبارك، وهي علاقته بموظف المراسم الذي يكن له احترام وتقدير. ولأنه كان سبباً في إنقاذ حياته في أديس أبابا.
هناك وقائع حقيقية ذكرتها مثل نقل السيارة الخاصة بمبارك في زيارة أديس أبابا، وإخفاء المسدسات، وزيارة المصانع. كما أن الجمل التي قالها مبارك في حواراته مع الصحفيين حقيقية، في حين أن كل حواراته مع سامي هي من الخيال.
وحتى أقدّم هذه الشخصية، كان عليّ دراستها ومحاولة فهمها من خلال القراءة العميقة عنه، ومشاهدة عدد ضخم من أحاديثه التلفزيونية، التي تحدث خلالها عن فترة عمله كنائب للرئيس السادات.
أنت قاضٍ وتتعامل مع شخصيات مختلفة في المحاكم هل تأثيرها يظهر خلال الكتابة؟
في السيمفونية الأخيرة ظهرت في المعتقلين الذين قضوا سنوات في المعتقل وكانوا منسيين، واستدعيتها خلال الكتابة لأنها موجودة في اللاوعي. لكن بشكل عام، عملي كقاضي لا يساعدني في كتابة الرواية، على العكس هو يفرض عليّ الكثير من القيود، ولا يمكن أن أكتب القضايا التي أتعامل معها كروايات، واعتمد على الخيال بنسبة 90%.
لماذا اخترت الموسيقى كخلفية للأحداث والعنوان؟
الموسيقى أكثر فن يمكن أن يوصل العلاقات المتناقضة. وحركات السيمفونية تختلف في علوها وانخفاضها، وهي الطريقة نفسها التي استخدمتها في الكتابة. حيث بدأت بمشهد عالي، وفيه ترقب وانتظار، ثم عدت بالزمن للطفولة. وطوال الوقت كان رفيق سامي هو آلة الكمان.
لماذا استخدمت السرد المتسلسل والمتقطع والانتقال بين أزمنة مختلفة؟
بعد المسوّدة الأولى للكتابة، بدأت في إعادة ترتيب بعض الأحداث، وأعجبتني فكرة التراوح الزمني لكسر الخط الثابت للأحداث والتشويق؛ لذلك بدأت الأحداث في مسرح الأوبرا في فرنسا، ثم انتقلت إلى الستينيات في مصر وهكذا.
ربما يزعج التراوح الزمني البعض، لكنه كان مهماً لإعطاء إحساس السيمفونية، فتكون بعض الأجزاء مرتفعة والأخرى منخفضة مثل الموسيقى تماماً. كما أن اللغة نفسها كانت أكثر شاعرية، لأن البطل فنان وعازف موسيقي. وفكرة الحب والكره تسمح بهذه اللغة، وأيضاً حرصت أن تكون الجمل قصيرة، ولها إيقاع خاص. فهناك شخصية أنثوية لديها مشاعر متضاربة في علاقتها بسامي وبزوجها باهر سعيد.
قدّمت كتاب “سرقات مشروعة”، ومجموعة روايات قصيرة “مواليد حديقة الحيوان” و13 رواية، أي من هذه الأنواع الأقرب إليك؟
فكّرت في كتاب جزء ثاني من “سرقات مشروعة”، وكتاب عن الجريمة خلال 100 عام في مصر. وقد أكرر تجربة النوفيللا إذا وجدت أفكاراً تصلح لها، لكن الرواية هي الأقرب لي وأكثر نوع ممتع، وأتعامل معها بمنتهى الجدّية.
كذلك أخاف جداً من القارئ، وأسعى كي أقدّم له شيئاً جديداً. لذلك يجب أن أحترم هذه الثقة وأعرف التوقيت المناسب للتوقف عن الكتابة إذا نضب الخيال، أو أصبحت الأفكار مستهلكة، لأني أريد البقاء بذكرى طيبة وتأثير ممتد.
