اخر الاخبار

“أفكار ميران”.. مدخل لفهم تحركات ترامب في الاقتصاد العالمي

منذ وصوله إلى البيت الأبيض في يناير الماضي، بدأ الرئيس الأميركي دونالد ترمب اتخاذ إجراءات تعكس رؤيته إلى النظام الاقتصادي العالمي في السنوات الأربع اللاحقة، إذ قرر رفع الرسوم الجمركية على بعض البلدان، بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة، مستلهماً بعض أفكاره من نصائح قدمها الخبير الاقتصادي الأميركي ستيفن ميران، الذي رشحه لمنصب رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين.

ميران الذي شغل خلال ولاية ترمب الأولى منصب المستشار الأول للسياسة الاقتصادية في وزارة الخزانة، تحدث في دراسة بعنوان “إعادة هيكلة نظام التجارة العالمية” نشرت في نوفمبر الماضي، عن “ضرورة إصلاح النظام التجاري والمالي الدولي لتعزيز المصالح الأميركية”، وقدم مقترحاً لرؤية معمقة حول مستقبل العلاقات التجارية والمالية الدولية، في ظل تصاعد الدعوات داخل الولايات المتحدة لإعادة تشكيل نظام قائم على أسس جديدة أكثر إنصافاً للمنتجين الأميركيين.

وجاءت هذه المقترحات في وقت كان ترمب يعد باتخاذ خطوات جذرية لإصلاح النظام التجاري والمالي الدولي.

إشكالية تقدير الدولار والخلل التجاري

يشير ميران في دراسته إلى أن أحد أكبر التحديات التي تواجه الاقتصاد الأميركي هو الارتفاع المستمر لقيمة الدولار، نتيجة كونه العملة الاحتياطية العالمية، مما يؤدي إلى تفاقم العجز التجاري وتقويض القدرة التنافسية للصناعات المحلية.

ويفسر ميران هذه الظاهرة من خلال “معضلة تريفين”، التي تفترض أن الدول التي تصدر العملة الاحتياطية العالمية تضطر إلى تشغيل عجز دائم في الحساب الجاري لتلبية الطلب العالمي على هذه الأصول، ما يؤدي إلى ارتفاع قيمة العملة وضعف الصادرات.

وبحسب ميران، يستفيد الاقتصاد الأميركي من هذه الوضعية من ناحية النفوذ المالي والسياسي، لكنه يدفع ثمناً اجتماعياً واقتصادياً باهظاً، يتمثل في تراجع القدرة التنافسية للصناعات المحلية، وتدهور المجتمعات الصناعية.

الرسوم الجمركية “أداة لتحقيق التوازن”

يعتبر ميران في هذه الدراسة أن الرسوم الجمركية يمكن أن تكون وسيلة فعّالة لتحقيق الإيرادات وتقليل العجز التجاري، بشرط أن يتم تعويض تأثيراتها عبر تعديلات في أسعار الصرف.

ويستشهد ميران بتجربة الولايات المتحدة مع الصين بين عامي 2018 و2019، حيث فرضت واشنطن رسوماً جمركية من دون أن تؤدي إلى ارتفاع كبير في معدلات التضخم، بسبب تراجع قيمة العملة الصينية.

وتقترح الدراسة تبنّي نظام جمركي مرن يتدرج في الرسوم وفقاً لسلوك الدول الشريكة، مع الأخذ بعين الاعتبار ممارسات مثل التلاعب بالعملات أو سرقة الملكية الفكرية. كما تربط فرض الرسوم بالاعتبارات الأمنية، خاصة في القطاعات الاستراتيجية مثل التكنولوجيا والصناعات الدفاعية.

وهكذا، ينظر ميران إلى الرسوم الجمركية كأداة لـ”إعادة التوازن”.

سياسة العملات: الحلول الأحادية والمتعددة الأطراف

يناقش ميران إمكانية تعديل قيمة الدولار من خلال تدخلات مباشرة أو عبر تنسيق دولي، على غرار اتفاقية بلازا لعام 1985. لكنه يلفت إلى أن التنسيق مع القوى الاقتصادية الكبرى، مثل الصين والاتحاد الأوروبي، قد يكون صعباً بسبب التعارض في المصالح.

لذلك، يقترح ميران خيارات أحادية، مثل استخدام قانون الطوارئ الاقتصادية الدولي (IEEPA) لفرض قيود على تعاملات الدولار أو تراكم الاحتياطيات الأجنبية.

إلا أن مثل هذه الإجراءات قد تؤدي إلى تقلبات حادة في الأسواق، وهو ما يتطلب تنسيقاً دقيقاً مع الاحتياطي الفيدرالي لتخفيف تأثيراتها على الاستقرار المالي.

تأثيرات غير متوقعة على الأسواق

يحذر ميران من أن فرض الرسوم الجمركية دون تعويضها بحركات في أسعار الصرف قد يؤدي إلى زيادة تكاليف الشركات المعتمدة على الواردات، مما قد ينعكس على أسعار المستهلكين، ويؤثر سلباً على الأسواق المالية، ويخلق تقلبات كبيرة في أسواق العملات والأسهم. كما أن ضعف الدولار قد يؤدي إلى ارتفاع العوائد على السندات، مما يزيد الضغوط على سوق الإسكان.

وفي ظل اعتماد الأسواق العالمية على الدولار كعملة تسوية، فإن أي تغيير في السياسة الأميركية قد تكون له ارتدادات عالمية.

تقاسم الأعباء وتعزيز الإيرادات

يدعو ميران في هذه الدراسة إلى استخدام السياسة التجارية كوسيلة لإعادة توزيع الأعباء المالية التي تتحملها الولايات المتحدة نيابة عن النظام العالمي، سواء في توفير الأمن أو دعم الاستقرار النقدي.

ويرى ميران أن فرض رسوم جمركية بطريقة مدروسة يمكن أن يساعد على استرداد جزء من هذه الكلفة، ويشجع بالتالي الدول الأخرى على مزيد من الانخراط في ترتيبات أكثر عدالة.

استراتيجية التنفيذ لتفادي الصدمات

يشدد ميران على أهمية تبني سياسة “التوجيه المسبق” في تطبيق الرسوم بشكل مشابه لما تقوم به البنوك المركزية في إدارة التوقعات، لتفادي إحداث صدمات في الأسواق، بحيث يتم الإعلان عن الإجراءات التجارية والنقدية مسبقاً بطريقة تقلل من اضطرابات الأسواق.

كما يوصي ميران بالتنفيذ التدريجي للرسوم الجمركية، مقروناً بمطالب واضحة من الدول المعنية بشأن فتح الأسواق، وذلك بناء على خطر سرقة الملكية الفكرية، وتعديل السياسات النقدية غير العادلة.

إعادة تعريف قواعد “اللعبة الاقتصادية”

يرى ميران أن إصلاح النظام التجاري العالمي لا يتعلق فقط بالاقتصاد، بل هو جزء من إعادة تشكيل موازين القوى الدولية.

ويؤكد أن الخيارات المتاحة، من الرسوم الجمركية إلى سياسات العملة، ليست مجرد أدوات مالية، بل وسائل جيوسياسية يمكن أن تعيد صياغة المشهد الاقتصادي العالمي.

لكن ميران يحذر من أن النجاح في هذا المسار يتطلب توازناً دقيقاً بين الطموح السياسي والاستقرار الاقتصادي، في عالم يشهد تحولات سريعة واصطفافات جديدة. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *