أطلق القمر الصناعي الروسي Cosmos 2558، الذي اشتهر بتتبع القمر الصناعي الأميركي USA 326، في أواخر يونيو، جسماً غامضاً بشكل مفاجئ إلى مداره، وهو ما أثار مخاوف أميركا من أن يكون على متنه أسلحة مضادة للأقمار الصناعية (ASAT)، وهي من النوع المصمم لتعطيل أو تدمير الأصول الفضائية عالية القيمة في لحظات.

وأفاد موقع EurAsian Times، بأن الجسم الذي أطلقه القمر الروسي، مجرد “مراقب”، موضحاً أن القمر عمل ما يقرب من 3 سنوات على مطاردة مركبة USA 326، ليحقق دقة مذهلة في ارتفاعه ومساره وسرعته.

ونقل الموقع عن خبراء قولهم إن هذا السلوك “ملاحقة فضائية”، وهي عملية مراقبة على غرار الحرب الباردة جرى تعديلها لتناسب العصر المداري.

وتُعرف هذه الأنظمة بـ”الأقمار الصناعية المُترصدة”، وأثار نشرها المُتخفي وقدراتها العسكرية المُحتملة قلقاً بالغاً، خاصة مع تحول الفضاء إلى ساحة صراع في الحروب الحديثة. 

ويحمل القمر الصناعي الأصلي القمر الأصغر بداخله، ولا يُطلقه إلا عندما يكون الوقت مُناسباً، والهدف مناسباً.

ولا يعتبر القمر الصناعي الأميركي المُستهدف USA 326 مركبة فضائية عادية، خاصة أنه أُطلق في فبراير 2022 في مهمة سرية، ومع ذلك يعتقد محللو الدفاع على نطاق واسع أنه قمر استطلاع بصري كريستالي مُحسّن متقدم من الجيل التالي من طراز KH-11، قادر على إرسال صور عالية الدقة في الوقت الفعلي مباشرةً إلى وكالات الاستخبارات الأميركية. 

ويُدير المركبة الفضائية مكتب الاستطلاع الوطني (NRO) بالتعاون مع SpaceX.

ويرى الموقع أن القمر الصناعي USA 326 يعمل بمثابة عين ناقدة في السماء للجيش الأميركي، وبالتالي فإن مراقبته عن كثب من قبل قمر صناعي روسي مسلح، أثارت أجراس الإنذار، ليس فقط في واشنطن ولكن في جميع أنحاء مجتمع الدفاع الفضائي.

برنامج روسي سري.. وتحذير من عواقب عسكرية

لا يعتبر إطلاق قمر صناعي روسي جسم أصغر حجماً “حادثة فريدة”. 

وقال ماركو لانجبروك، خبير تتبع الأقمار الصناعية والمحاضر في جامعة دلفت للتكنولوجيا في هولندا، إن هذه هي ثالث حالة معروفة خلال 5 سنوات تُطلق فيها روسيا أقماراً صناعية عسكرية تُطلق لاحقاً أجساماً أصغر حجماً وأكثر قابلية للمناورة.

وتشكل هذه العمليات جزءاً من برنامج أوسع نطاقاً وأكثر سرية، يُعرف باسم “مشروع نيفيلير”.

ووفقاً لبارت هندريكس، المراقب المخضرم لبرنامج الفضاء الروسي، فإن هذا المشروع يتجاوز مجرد مسعى علمي، فهو جهد طويل الأمد “له عواقب عسكرية محتملة”.

وغالباً ما يجري إخفاء هذه الحمولات داخل القمر الصناعي الرئيسي، تماماً مثل “دمية ماتريوشكا” التي تخفي طبقات داخلها.

و”نيفيلير”، الذي سُمي على اسم أداة مسح تُعرف باسم “مستوى الدُمْبي”، بدأ العمل به عام 2011، ولا يزال مُحاطاً بالسرية، لكن بفضل معلومات استخباراتية مفتوحة المصدر، نجح مراقبو الفضاء تدريجياً في تجميع “صورة مُرعبة” عنه، بحسب EurAsian Times.

وعلى مدى السنوات الماضية، أطلقت روسيا سلسلة من الأقمار الصناعية القادرة على تنفيذ عمليات الالتقاء والتقارب، وحتى إطلاق المقذوفات، وهي كلها سمات مميزة لاستراتيجية سرية مضادة للأقمار الصناعية.

وعلى النقيض من المهام المدنية، جرى رصد أقمار “نيفيلير” وهي تقترب، وتتعقب، وفي بعض الحالات، تطلق مقذوفات، ليس على أقمار صناعية معادية، ولكن على أصول روسية أخرى، ربما لتجنب الاكتشاف الدولي.

هل تستعد روسيا لحرب فضائية؟

الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، مارك روته، أصدر في أبريل الماضي، تحذيراً شديد اللهجة، قال فيه إن الحلف على علم بتقارير موثوقة تشير إلى أن موسكو ربما تدرس نشر أسلحة نووية في المدار، وهي خطوة من شأنها أن تُقوض المعاهدات الدولية الراسخة وتُفاقم المخاطر الأمنية العالمية إلى مستويات غير مسبوقة.

وحذر روته، من استخدام الأسلحة النووية ضد الأقمار الصناعية، لأن العواقب ستكون كارثية، من بينها شلل شبكات الاتصالات العالمية، وتعطل أنظمة مراقبة الأرض، وتعطل كل شيء من القيادة العسكرية إلى نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) المدني.

وأشار موقع EurAsian Times، إلى أنه على الرغم من عدم نشر أي أسلحة من هذا القبيل علناً، إلا أن القلق يتزايد، ويرى خبراء أن النشاط الفضائي الروسي الأخير، المُغطى بـ”مهام التفتيش”، يُشير إلى واقع أخطر، وهو أن النشر السري لأنظمة مضادة للأقمار الصناعية (ASAT) خاملة موجودة بالفعل في المدار.

وحذر ماركو لانجبروك، من أن الأقمار الصناعية الروسية تعمل على ملاحقة الأقمار الصناعية الأخرى، أو تعطيلها أو تدميرها.

أشباح في الفضاء

ظهرت أولى إشارات قدرات “مشروع نيفيلير” بين عامي 2013 و2015 عندما انضمت 3 أقمار صناعية غامضة، إلى حمولات الاتصالات، وفي وقت لاحق، انقسم اثنان من هذه الأقمار الصناعية، Cosmos 2491 و2499، بشكل غير متوقع، ما أدى إلى خلق سحب من الحطام الفضائي، ربما في أعقاب تجارب أسلحة فاشلة.

وبحسب EurAsian Times، جاءت الإشارة الأكثر وضوحاً للنية العسكرية عام 2017 عندما وصفت روسيا علانية القمر الصناعي Cosmos 2519، بأنه “قمر تفتيش”، وقالت وزارة الدفاع إن هدف القمر هو تصوير الأرض وأجسام أخرى في المدار. 

وبعد شهرين، نشرت موسكو القمر Cosmos 2519، و2521، وهو قمر صناعي فرعي بدأ سلسلة من مناورات الالتقاء، ليس مع قمر صناعي أجنبي، ولكن مع قمره الصناعي الرئيسي، ما أثار الدهشة بين المراقبين الدوليين.

وفي أكتوبر 2017، أطلق Cosmos 2521، بشكل غير متوقع جسماً آخر، وهو Cosmos 2523 والذي غيّر مداره على الفور بمقدار 100 كيلومتر، ما يشير إلى اختبار إعادة التموضع المداري السريع أو حتى جهاز حركي، وتكرر السيناريو في نوفمبر 2019، حين أطلق Cosmos 2542، القمر Cosmos 2543، والذي أجرى لاحقاً عمليات تقارب. 

وفي يوليو 2020، اقترب Cosmos 2543، من Cosmos 2535، وأطلق مقذوفاً غير مداره بشكل كبير، لكن هذا الجسم لم يُسجل لدى الأمم المتحدة، منتهكاً بذلك المعايير الدولية، وفق EurAsian Times.

وذكر الموقع المتخصص في الشؤون العسكرية، أنه عند النظر إلى هذه المهمات مجتمعة، فأنها تُشكل نمطاً واضحاً، يكمن في إطلاق أقمار صناعية تبدو حميدة في البداية، مركبات أصغر وأكثر تخفياً قادرة على تنفيذ مناورات هجومية، تحت مظلة “مشروع نيفيلير”. 

وأضاف أنها أقمار صناعية تُطلق بذريعة حميدة، ثم تتحول لاحقاً إلى “صيادين”.

الأقمار الصناعية.. من بيانات الطقس إلى الحرب

يظل الكثير من “مشروع نيفيلير” سرياً، ولكن وثائق المشتريات عبر الإنترنت ساعدت الباحثين، مثل محلل الفضاء بارت هندريكس، في رسم صورة أكثر وضوحاً للاعبين الرئيسيين الذين يقودون هذه المبادرة الفضائية السرية.

وتوجد خلف قدرات “مشروع نيفيلير” شبكة مترابطة من المؤسسات الدفاعية الروسية التي يمتد تاريخها إلى عقود.

وبدأ البرنامج رسمياً في 30 سبتمبر 2011، بعقد بين وزارة الدفاع الروسية والمعهد المركزي للبحوث العلمية في الكيمياء والميكانيكا، المعروف باسم TsNIIKhM.

ويتمتع هذا المعهد الذي يقع مقره في موسكو، بإرث من الحرب الباردة في مجال تقنيات الوقود الصلب والمتفجرات، ما يجعله لاعباً مناسباً في تجارب الفضاء.

وفي أول ديسمبر 2011، سلمت مؤسسة TsNIIKhM جزءاً من عقد Nivelir إلى شركة NPO Lavochkin، وهي شركة رائدة في مجال الفضاء الجوي مكلفة بتطوير الأقمار الصناعية “الأم”، وهي المركبة الأكبر حجماً التي من شأنها أن تستضيف وتنشر الأقمار الصناعية الفرعية الأصغر حجماً.

وركز معهد TsNIIKhM على تصميم الحمولات نفسها، بما في ذلك المقذوفات التي جرى إطلاقها خلال العديد من مهام الاختبار.

وأشار الموقع إلى أن ما بدا في السابق خيالاً علمياً أصبح الآن واقعاً استراتيجياً، ولم تعد الأقمار الصناعية مجرد وسيلة لنقل بيانات الطقس أو إشارات التلفزيون، بل أصبحت بنية تحتية حيوية في الحرب والسلم على حد سواء.

وحوّلت استراتيجية الفضاء الروسية، على غرار “دمية ماتريوشكا”، من خلال “مشروع نيفيلير”، الأقمار الصناعية إلى تهديدات مزدوجة الاستخدام، قادرة على جمع المعلومات الاستخبارية، والتتبع، وربما أداء أعمال هجومية.

شاركها.