دخل الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة، شهره الثاني، ما أجبر مئات الآلاف من الموظفين الفيدراليين على ترك مواقعهم وبدء إجازات قسرية غير مدفوعة الأجر، وتعطّلت برامج مساعدات حكومية تمثل عوناً لملايين الأميركيين، وقدر مكتب الميزانية التابع للكونجرس خسائر الاقتصاد بما بين 7 و 14 مليار دولار، وهي خسائر ربما يصعب على واشنطن التعافي منها.
بدأ الإغلاق، وهو الأول الذي تشهده الولايات المتحدة منذ 7 سنوات، في أول أكتوبر، بعد إخفاق الكونجرس في الاتفاق على قانون المخصصات للسنة المالية الجديدة، ورغم مرور 31 يوماً على بدايته، لا تلوح في الأفق أي بوادر لنهايته، بينما يتبادل قادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي، الاتهامات بشأن استمراره.
لكن آثار الإغلاق لم تقف عند حدّ إجبار موظفي الحكومة الفيدرالية على إجازات قسرية؛ وإنما قد يترك ندبة عميقة في جبين الحكومة الأميركية، تتمثل في “تراجع محتمل في جودة الخدمات” التي يقدمها هؤلاء الموظفين، أو في فقدان الجهاز الحكومي “عمالته الماهرة”، وفق ما رجّح خبراء في مجال الإغلاق والميزانية في تصريحات لـ “الشرق”.
مع حلول منتصف ليل أول أكتوبر، والذي يوافق أول أيام السنة المالية الجديدة في الولايات المتحدة، ترقب مئات الآلاف من الموظفين الفيدراليين إعلان المشرعين توصلهم لاتفاق على مخصصات الحكومة للعام المالي الجديد، أو ما يعرف بـ “قانون المخصصات”، وهو ما لم يحدث حينها، فبدأت حالة الإغلاق الحكومي.
ويعني الإغلاق توقف العمليات الحكومية الفيدرالية بشكل جزئي أو كلي، نتيجة عدم إقرار الكونجرس قانون المخصصات، والذي يحدد أوجه الصرف الحكومي، وحجم مخصصات كل وكالة أو برنامج فيدرالي خلال العام المالي.
وفي ظل الإغلاق، يُحظر على الحكومة إنفاق أي أموال إلا بعد حصولها على تفويض من الكونجرس بذلك، بموجب قانون مكافحة العجز، بما في ذلك دفع رواتب الموظفين الفيدراليين، والذين يقدر مكتب إدارة الأفراد الأميركي عددهم بأكثر من 2 مليون موظف.
أستاذ التمويل بجامعة بافلو، سكوت لاينج، قال إن كل وكالة تتّبع خطة مصممّة لتعاملها مع الإغلاق الحكومي، وتقضي تلك الخطط “بإحالة مئات الآلاف من العاملين إلى الإجازة القسرية”، أو ما يُعرف بالـ (Furlough).
ووفقاً لتقديرات أعلنها مكتب الميزانية التابع للكونجرس نهاية سبتمبر الماضي، فإن الإجازات القسرية ربما تكون مصير نحو 750 ألف موظف فيدرالي خلال فترة الإغلاق الحكومي.
وفضلاً عن الإجازة القسرية، بدأت إدارة الرئيس دونالد ترمب عمليات تسريح موظفين فيدراليين قُدّرت أعدادهم بالآلاف، وهو القرار الذي وصفه ترمب بأنه “وارد الحدوث” فيما تبدو الأزمة ممتدة لفترة طويلة.
لكن الإجازات الإجبارية والفصل لم يسريا بالضرورة على الجميع؛ فالعديد من موظفي “القطاعات الحساسة”، كما يصفها لاينج، في تصريحاته لـ “الشرق”، مثل أمن الطيران، وحرس الحدود، وقطاع السجون، الذين يواصلون عملهم “ولكن دون أجر” لحين توقيع قانون المخصصات الجديد.
ومع دخول الإغلاق الحكومي شهره الثاني دون وضوح أي أفق لنهايته قريبا، قالت أليسون داجنِس، أستاذة العلوم السياسية بجامعة شيبنسبورج في بنسلفانيا، إن الأسبوع الراهن يتسم “بأهمية خاصة”، لأنه موعد صرف الرواتب إلى آلاف العسكريين.
خسائر الموظفين بسبب الإجازات الإجبارية
وقبيل ساعات من بداية الإغلاق، أواخر سبتمبر الماضي، نشرت جامعة فيرجينيا تقريراً بعنوان “التكلفة الخفيّة للإغلاق الحكومي”، رصد تعرض الموظفين الفيدراليين الذين أجبروا على إجازات قسرية في أوقات سابقة لـ”ضربة معنوية واضحة” نجمت عن الخسارة المالية التي تكبّدوها خلال الإجازة.
وقدّر كريستوف هيربفور، الأستاذ المساعد في مجال تمويل القطاع الصحي بالجامعة والمشارك في إعداد التقرير، في تصريحات لـ “الشرق”، أن الموظفين الذين أحيلوا للإجازات القسرية “فقدوا نحو 10% من رواتبهم بشكل دائم، حتى مع استرداد أجورهم لاحقاً”.
وأوضح أن الموظفين المتضررين كانوا “أكثر عرضة بمقدار الثلث لترك العمل خلال عام”، نتيجة ما سماه “هزة نفسية ومهنية” يتعرضون لها في تلك الأثناء.
ورأى هيربفور أن استمرار الإغلاق ربما يؤدي في نهاية المطاف إلى “فقدان العمالة الماهرة” بشكل دائم عبر “تسرب طويل الأمد” للموظفين، وهو ما قد يرافقه “تدهور في جودة الخدمات الحكومية المقدمة”.
خسائر.. وتراجع في جودة الخدمات
لكن الخسارة لن يتحملها الموظفون الفيدراليون وحسب، وإنما يتقاسمها معهم الاقتصاد الأميركي ككل، بحسب أستاذ التشريعات الإدارية بجامعة جورج واشنطن، ريتشارد بيرس.
وقال بيرس لـ “الشرق”، إن بعض القطاعات تحظى باستثناء من ذلك التوقف، ومنها قطاع مراقبة حركة الطيران. إلا أن ذلك يقترن بـ “اضطرابات متزايدة” في تلك القطاعات، مع عدم قدرة المراقبين على “إعالة أنفسهم ومواصلة العمل”.
وفيما طالت آثار الإغلاق معظم الوكالات والوزارات، أشارت وزارة النقل إلى أنها ربما تحيل نحو 11 ألف موظف من إدارة الطيران الفيدرالية (FAA) إلى الإجازة القسرية، كما ستطلب من نحو 13 ألف مراقب جوي، وما يقارب الـ 50 ألف ضابط في إدارة أمن النقل “العمل دون أجر”.
وكانت إدارة الطيران الفيدرالية أعلنت، الاثنين الماضي، تأجيل أكثر من 1400 رحلة جوية، مع استمرار تعطل السفر، بسبب غياب مراقبي الحركة الجوية عن العمل في ظل إغلاق الحكومة الفيدرالية.
وقال سكوت لاينج، أستاذ التمويل بجامعة بافلو، إن حالة الإغلاق، وما يصاحبها من ضغط على منظومة الطيران، وازدياد في حالات الغياب، ربما يسفر عن خسارة تصل إلى نحو 400 مليون دولار يوميًا، وهي التعويضات التي ربما يُعاد صرفها لاحقاً لموظفي الحكومة الفيدرالية، عن فترة الإجازة القسرية.
7 مليارات دولار خسائر حكومية عن كل أسبوع إغلاق؟
ومع عدم وضوح أفق لانتهاء حالة الإغلاق الحكومي، حذر مكتب الموازنة التابع للكونجرس من أن يتكبّد الاقتصاد الأميركي خسائر تتراوح بين 7 و 14 مليار دولار، وهي الخسارة التي يرجح المكتب ألا يتمكن الاقتصاد الأميركي من التعافي منها.
وقدّرت شركة Ernst & Young للاستشارات والمحاسبة، في تقرير نشرته أواخر أكتوبر، أن يفقد الاقتصاد الأميركي نحو 7 مليارات دولار من الناتج المحلي الإجمالي كل أسبوع يستمر فيه الإغلاق.
ويمتد أثر الإغلاق من الاقتصاد الكلي للبلاد، إلى تمويل برامج مساعدات حكومية يستفيد منها ملايين الأميركيين، كما تقول أليسون داجنِس، أستاذة العلوم السياسية بجامعة شيبنسبورج في بنسلفانيا، مشيرة إلى احتمال وقوع “أزمة” نتيجة استمرار الإغلاق، مع وجود نحو 42 مليون أميركي يعتمدون على برنامج المساعدة الغذائية التكميلي، معتبرة أن تعطّل هذه البرامج يمثل “كابوساً” لهؤلاء المواطنين.
لكن الأزمة التي أشارت إليها داجنِس لـ “الشرق” ربما تتطور لاحقاً؛ مع انخفاض درجات الحرارة خلال فصل الخريف، وهو ما قد يؤثر على نحو 6 ملايين أسرة أميركية تعتمد على المساعدات في تدفئة المنازل، ما ينذر بـ “خطر بالغ”، على حدّ وصف داجنِس.
وأضافت داجنِس، أن استمرار الإغلاق سينعكس أيضاً على الأميركيين الذين يعتمدون على أشكال مختلفة من الدعم الحكومي، مشيرة إلى أثر سياسي يتمثل في “زيادة الانقسام بين الأميركيين عمقاً”.
من المسؤول عن الإغلاق؟
في سبتمبر الماضي، وقبل يومين من الموعد النهائي لإقرار قانون المخصصات الجديد، استقبل ترمب زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأميركي، تشاك شومر، وزعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب، حكيم جيفريز، في محاولة أخيرة للوصول لاتفاق يقضي بـ”استمرار تمويل الحكومة”. إلا أن الاجتماع لم ينته بشكل إيجابي.
لاحقاً، ألقى كل جانب باللوم على الآخر، فمن جانبه قال شومر إن “الجمهوريين يسعون لإلغاء تمويل الرعاية الصحية الذي سبق وأقره الكونجرس، بما سيضر بملايين الأميركيين”، فيما اتهم ترمب ومؤيدوه الديمقراطيين باستخدام “قانون الرعاية الميسّرة” المعروف اختصاراً بـ “أوباما كير” لتقديم الرعاية الصحية “للمهاجرين غير الشرعيين، من أموال دافعي الضرائب”.
وفيما ينفي الديمقراطيون تلك الاتهامات، فإن قادتهم تمسكوا على مدى شهر بعدم التصويت على إعادة فتح الحكومة، في المقابل، اشترط الرئيس “إنهاء أزمة الإغلاق الحكومي” قبل لقاء قادة الحزب الديمقراطي مجدداً.
وترى أليسون داجنِس، الأستاذة بجامعة شيبنسبورج، أن “الحزب الجمهوري” هو من يتحمل المسؤولية عن طول مدة الإغلاق.
وأضافت أن “لوم الديمقراطيين لا يقنع سوى الجمهور غير المطلع سياسياً، لكنه في النهاية غير واقعي، بحكم أن الجمهوريين يسيطرون على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية”.
لكن إقرار قانون المخصصات يتطلب موافقة الكونجرس بغرفتيه، مجلس النواب والشيوخ، قبل تصديق الرئيس عليه، ولم يتمكن الجمهوريون، الذين لا يحظون بأغلبية مطلقة في مجلسي النواب والشيوخ، من إقناع عدد كاف من الأعضاء الديمقراطيين بالتصويت لإعادة فتح الحكومة.
وكبديل عن إقرار قانون المخصصات، يمكن للكونجرس إقرار “تمويل مؤقت” لاستئناف تمويل الحكومة، لكن المشرعين الأميركيين لم يتوصلوا لاتفاق بشأن أي من المسارين.
ويرى أستاذ التمويل بجامعة بافلو، سكوت لاينج، أن المسؤولية “تقع على الطرف الذي يعرقل تمرير التمويل المؤقت وفق الحدود الحالية للإنفاق، أو يمنع التصويت عليه بما يطيل أمد الإغلاق”.
في المقابل، يميل ريتشارد بيرس، الأستاذ بجامعة جورج واشنطن، لتحميل “كلا الحزبين” المسؤولية، فمن ناحية يرفض المشرعون الجمهوريون تقديم تنازلات “خوفاً من أن يدعم ترمب منافسين لهم في الانتخابات التمهيدية”.
ومن ناحية أخرى، فإن السيناتور تشاك شومر، “يرفض التنازل كذلك، خشية أن يواجه ضغطاً من النائبة الديمقراطية ألكساندريا أوكاسيو كورتيز، بحملة تُقصيه من منصبه”.
وتعد أوكاسيو كورتيز، النائبة الديمقراطية من نيويورك، من أبرز الأصوات الديمقراطية الشبابية التي تدافع عن مواجهة سياسات ترمب عبر ورقة الإغلاق الحكومي، وقالت في تصريح سابق إنها “لن تسمح بإلغاء قانون الرعاية الصحية الميسرة، والذي يوفر الدعم الصحي لـ 4 ملايين أميركي”.
الحل الوسط.. تمويل مؤقت “نظيف”
الأستاذ المساعد بجامعة فيرجينيا، كريستوف هيربفور، يرى أن قادة الحزبين بإمكانهم تجنّب أضرار الإغلاق “عبر تمرير قرار تمويلي مؤقت”، وهو تمويل يسمح بإعادة فتح الحكومة لأجل قصير فور اعتماده داخل الكونجرس عند تعثر المشرعين في إقرار الموازنة الحكومية الجديدة.
ودعت رابطة الموظفين الحكوميين، الاثنين، إلى تمرير “قرار تمويلي نظيف”، يسمح بإعادة فتح الحكومة ودفع رواتب الموظفين بأثر رجعي.
وأوضح سكوت لاينج، أستاذ التمويل بجامعة بافلو، أن القرار التمويلي “النظيف”، يعني إعادة تمويل الحكومة بصورة مؤقتة “وفقاً لحدود الإنفاق” التي تحددها آخر ميزانية أقرها الكونجرس، كما يستثنى كافة البنود السياسية الخلافية بين الحزبين.
وبحسب ريتشارد بيرس، الأستاذ بجامعة جورج واشنطن، فإن الشرط الأهم للوصول إلى ذلك التفاهم، هو أن يظهر قادة الحزبين “استعداداً” للعمل معاً وتقديم تنازلات.
واستبعد لاينج أن يوافق قادة الجمهوريين أو الديمقراطيين على تقديم التنازلات المطلوبة بسهولة، في ظل ما يصفه بحالة “الاستعراض السياسي” أمام الناخبين، إذ يحرص صناع القرار أن يظهروا أمام جمهورهم “بمظهر المتشدد”، بحسب لاينج، أملاً في كسب مزيد من التأييد السياسي.
أليسون داجنِس اعتبرت أن الإغلاق الراهن هو نتاج فترة من “الاستقطاب السياسي الحاد”، وهو ما أسفر عن تراجع الحوار بين قادة الحزبين لبناء الثقة بين أكبر مكونين سياسيين في الولايات المتحدة.
ورغم تمسك كل من الحزبين بموقفه بما يطيل مدة الإغلاق، فإن سكوت لاينج، لا يرى وجود اتفاق تام داخل كل حزب بشأن ذلك الملف، مشيراً إلى اختلاف داخل الجانب الجمهوري بشأن مسألة سقف الإنفاق العام، بين من يدعو إلى تخفيضات عميقة، ومن يريد الالتزام بالسقوف السابقة.
وتمتد خلافات الجانب الجمهوري، وفقاً لما يرصده لاينج، إلى ملفات من بينها توزيع الإنفاق بين الدفاعي وغير الدفاعي، بالإضافة إلى الخلافات المتعلقة ببنود سياسية مثل قضايا الحدود، وإلغاء سياسات البيئة والمسؤولية الاجتماعية والتنوع (DEI)، وقضية الإجهاض.
أما على الجانب الديمقراطي، فيرى لاينج أن هناك “توافقاً واسعاً” على تمرير قرار تمويلي مؤقت لإنهاء وضع الإغلاق، رغم ذلك تستمر نقاشات بين الديمقراطيين بشأن إنفاذ الحدود والأولويات الداخلية مثل تمويل الرعاية الصحية وبرنامج “أوباما كير” للرعاية الميسّرة.
 
									 
					