أوسكار 2025: I’m Still Here.. عن قوة الابتسامة في عز المأساة

يستحق فيلم I’m Still Here للبرازيلي والتر ساليس ذلك التقدير الذي حظي به والجوائز التي حصل عليها بداية بجائزة أفضل سيناريو التي حصل عليها من مهرجان فينيسيا الماضي، ثم الجولدن جلوب والبافتا وآخرها الأوسكار، مروراً بعشرات الجوائز الأخرى، هو واحد من أفضل أفلام العام وأكثرها تأثيراً.
عن سيناريو موريلو هاوزر وهيتور لوريجا المقتبس بدوره عن كتاب Feliz Ano Velho (سنة قديمة سعيدة) لمارسيلو بايفا، يتتبع فيه الكاتب سيرة أمه، أونيسة، عقب اختطاف أبيه وقتله على يد رجال النظام في برازيل السبعينيات، وقيامها بتربية أبناءها بجانب النضال من أجل استعادة حق زوجها المغدور، يبدع المخرج والتر ساليس في صياغة عمل تاريخي سياسي إنساني فذ.
ساليس، 65 سنة، هو أحد علامات السينما البرازيلية، وأكثر من وصل بها إلى العالمية، محققا عشرات الجوائز في “كان” و”فينيسيا” و”برلين” والجولدن جلوب والبافتا، من أشهر أعماله Central Station عام 1998، الذي يستعرض حياة الفقراء في محطة القطار الرئيسية، والذي لعبت بطولته فيرناندا مونتينجرو، أشهر وأعظم ممثلات البرازيل، وهي بالمناسبة والدة فيرناندا توريس بطلة I’m Still Here، والتي تظهر في المشهد الأخير منه، في شخصية أونيس بعد أن صارت عجوزاً!
من أشهر أعمال ساليس أيضا فيلم The Motorcycle Diaries، 2004، الذي يرصد جزءا من حياة تشي جيفارا الشاب. وساليس، بالمناسبة أيضا، كان بين 50 سينمائيا عالميا وقعوا خطابا مفتوحا يطالب بإيقاف النار في غزة نشر في صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية في ديسمبر 2023.
قبل العاصفة
تشير عناوين I’m Still Here الأولى إلى أننا في ريو دي جانيرو، 1970، تحت الحكم العسكري، لكن ما نشاهده بعد ذلك، على مدار نصف ساعة تقريبا، هو الحياة اليومية لعائلة ثرية، مكونة من أب وأم وخمسة أبناء، يقيمون في “فيلا” فاخرة على بعد خطوات من الشاطئ، ويستمتعون بإجازة صيف طويلة، سعيدة، يدعون الأصحاب والمعارف على الغذاء أو العشاء، يسبحون، ويلعبون الطاولة و”الفوسبول”، يستمعون إلى الأغاني عبر جهاز الأسطوانات (البيك أب)، ويلتقطون الصور الفوتوغرافية، أو يصورون أفلاماً عائلية بالكاميرا 8 مللم.. حتى عندما يقوم رجال الأمن باعتراض سيارة تقل البنت الكبرى وأصحابها ويعاملونهم بقسوة، ناعتين إياهم بالـ”هيبيز”، أو عندما تمر سيارة عسكرية تمتلئ بالجنود في شارعهم، لا يبدو أن شيئاً يمكن أن يعكر صفو هذه الحياة البريئة المكتفية بذاتها.
بإيقاع هادئ، وتفاصيل منزلية دقيقة، يستعيد ساليس فترة بداية السبعينيات، بأغانيها وأفلامها وملابسها وأفكارها، الشوارع والسيارات والثقافة والفنون والملابس.
العنف السياسي: عنف الدولة العسكرية والعنف المضاد للجماعات المسلحة من خلال اختطاف السفراء للمطالبة بالإفراج عن سجناء الرأي، يدخلنا والتر ساليس إلى عالم أسرة “بايفا”، الأب الطيب “روبنز”، عضو الكونجرس السابق، والأم، “يونيس”، التي تدير بيتها وحياة أبناءها الخمسة بحب غير مشروط مقرون بالحزم، الابنة الكبرى التي تستعد للسفر إلى لندن للدراسة، المفتونة بالثقافة الأوروبية: البيتلز، جون لينون، جودار، فيلم “تكبير الصورة” لأنطونيوني، “سايكو” لهيتشكوك، الأغاني الفرنسية الجريئة. الابنة الوسطى، الأكثر تمرداً، والأصغر منها، الأكثر رهافة وهشاشة، والولد الوحيد المدلل، الذي يصطحب إلى البيت كلباً صغيراً لطيفاً وجده على الشاطئ، والصغرى التي تفقد إحدى أسنانها، فيصطحبها الأب إلى الشاطئ لدفن السن (هذه الشعيرة التي نجدها في ثقافات أخرى، مثلما يفعل المصريون حين يلقون السن المخلوعة في الشمس، حتى تطلع محلها “سنة العروسة”، ولكن الأب يستعيد السن من الرمل، لنعرف في مشهد متأخر من الفيلم أنه احتفظ بها داخل علبة كبريت في درج مكتبه.. تفاصيل حميمة دافئة، وممثلين طبيعيين طيبين، كأنهم أسرة فعلاً، وكأننا أصبحنا جزءاً من هذه الأسرة.
ولذلك عندما تأتي المصيبة، التي تتجمع نذرها تدريجياً، مخلفة الترقب والقلق، يشعر المشاهد بالجزع والألم، متماهيا مع الأم وأبناءها. ذات يوم يقتحم رجال أمن يرتدون الملابس المدنية البيت، ويصطحبون الأب إلى مكان مجهول، ويبقى بعضهم داخل البيت، نهاراً وليلاً، على مدار أيام، قبل أن يتم اعتقال الأم وإحدى بناتها، حيث تتعرض الأم لاستجواب قاس، وتسجن في زنزانة بمفردها، لا ترى شيئاً، ولا تسمع سوى صرخات الذي يتعرضون للتعذيب، أو شدو أغنية حزينة يرددها سجين بالزنزانة المجاورة ليلاً.
مولد البطلة
بعد أيام طويلة في الحبس، يفرج عن الأم وإعادتها إلى البيت ليلاً، أول ما تفعله هو أن تستحم، مزيلة طبقات الطين التي تراكمت على جسدها، وتنام.
في الصباح تتحول إلى امرأة أخرى.. الآن زال عنها الخوف، واكتسبت قوة جديدة، وشخصية جديدة، ربما لا تعرف بالضبط ما ستصبح عليه، ولكن خلال الأسابيع والشهور التالية سيكتمل التحول. كل ما تفكر فيه وتسعى إليه الآن هو حماية وتربية أبناءها وإخفاء، أو على الأقل تخفيف الألم عليهم، واستعادة زوجها، أو اعتراف الحكومة بأنها أعدمته، وهو أمر يستوجب منها أن تترك ريو دي جانيرو، وتصطحب العائلة إلى مدينة ساو باولو، مسقط رأسها، حيث تلتحق بالجامعة، لتحصل على شهادة في القانون وعمرها 48 عاما (!) وتواصل النضال من أجل استعادة حقوق المفقودين والمقتولين، إلى أن تتسلم شهادة رسمية بموت زوجها على يد النظام السابق في 1996.
أداء رائع من فيرناندا توريس، كانت تستحق عليه الأوسكار بجدارة، ولعل أهم تحدٍ قامت به هو أن تؤدي هذا الدور المأساوي بعزة نفس وكرامة تمنعها من البكاء في أحلك اللحظات، بل تصر، كمسألة مبدأ، متحدية خصومها، وحتى لا تثير حزن أبناءها، على الابتسام دائما.
ما بين المشهد الذي يصور رد فعلها يوم اقتحام منزلهم وأخذ زوجها: الصوت المبحوح من شدة الخوف، وهي تسأل الرجال الأجلاف بتوسل، “هل يمكن أن أذهب معه؟”، والمشهد الذي تظهر فيه كناشطة من أجل حقوق الإنسان وحقوق السكان الأصليين، مرورا بالمشهد الذي تتخذ فيه قرارها بالرحيل عن ريو دي جانيرو، رغم اعتراض الأبناء، رحلة زوجة من حياة الدعة الناعمة والاعتماد على الزوج (وهي تطلب منه تكييفاً لحرارة الصيف، مثلاً) إلى امرأة دخلت الجحيم، وخرجت منه، وقد صهرتها التجربة، وكشفت عن معدنها الفولاذي المختبئ.
I’m Still Here ليس فقط فيلماً عن الديكتاتورية أو التوثيق لقصة تاريخية بعينها، ولكنه فيلم عن قوة بعض النساء التي لا تبارى في حماية العائلة والعمل والجهاد الوطني في الوقت نفسه.
قفزتين للأمام
يتوقف ساليس عند رحيل العائلة إلى ساو باولو، مكتفيا بقفزتين كبيرتين في الزمن، الأولى بعد 25 عاماً، حين تحصل “أونيس” على شهادة موت زوجها، والثانية بعد 18 عاماً أخرى، في أيامها الأخيرة، وقد فتك بذاكرتها الألزهايمر.. وإن كانت حياتها لم تزل تعيش في مكان ما في الذاكرة، أو في ذاكرة وقلوب الأبناء والأحفاد الذين يلتقطون معها الصورة الأخيرة.
هذا القرار باختزال 43 سنة من عمر بطلته في مشهدين واحد من أجرأ القرارات الفنية التي يمكن أن يتخذها مخرج، فبدلاً من تعقب حياة بطلته أفقياً لرصدها بمشاهد سريعة تتقافز في الزمن، هذا النوع الذي يخاطب الجزء المعلوماتي من العقل فقط، ينحاز ساليس للبناء الرأسي الذي يتميز بالعمق، ويركز على فترة قصيرة وشخصيات أقل، متتبعاً الشهور القليلة الأهم في حياة البطلة وعائلتها، التي سبقت وأعقبت اختطاف الأب واختفاءه، والتي قلبت عالمهم رأسا على عقب.
I’m Still Here، فوق كل شيء، هو فيلم عن المشاعر والوجدان وصدمة وعذاب الاعتقال السياسي الذي يؤثر على العائلة بأسرها، وهو أيضاً عن قدرة الحب والتماسك العائلي على مداواة مثل هذه الجروح العميقة، هذا الانحياز للعمق يترك أثره على مشاعر وعقل المشاهد بشكل يستحيل أن يفعله البناء الأفقي للأحداث التاريخية، بجانب مضمونه التاريخي المهم، فإن I’m Still Here دراما عائلية وإنسانية ونسوية من الطراز الأول.
صورة عائلية
ينقسم الفيلم إلى نصفين/ حركتين، الأول يمتد لساعة تقريباً، يبدأ بدراما هادئة جدا، تتسارع تدريجياً وصولاً إلى الذروة (يونيس في ظلام الحبس)، ويبدأ الفصل الثاني بخروجها من الحبس، سريعاً أيضا حتى السفر إلى ساو باولو، حيث تتجول الكاميرا ببطء بين حوائط البيت الخاوي الصامت، ثم تهدأ الحركة تدريجياً، لتعيدنا إلى البداية، بصورة الشاطئ العائلية التي تستعيدها الأم، ثم يستنسخها الأبناء والأحفاد بصورة عائلية جماعية أخيرة، لنعود إلى البيت القديم، حيث تتجول الكاميرا بين حوائطه مرة أخيرة، في صمت غارق في الظلال، مع نزول العناوين الأخيرة التي تستعرض صور العائلة الأصلية.
لا غرابة إذن أن تكون صورة الشاطئ العائلية هي صورة الملصق الرئيسي للفيلم، وهو ما يكمل المعنى الذي قصده الابن مارسيلو بعنوان كتابه “سنة قديمة سعيدة” (عاكسا تعبير”سنة جديدة سعيدة” الذي يقال في الاحتفالات)، ذلك أن هذه العائلة لم تعرف السعادة منذ رحيل الأب، إلا من خلال استعادة الماضي (ورمزيا استعادة الأب ولو بشهادة وفاة)، بتذكر واستحضار العام السعيد الأخير الذي قضوه معاً، وهو ما يحققه لهم والتر ساليس (وللمشاهدين أيضاً) باستحضار الماضي وتجسيده على الشاشة.
لقد مر ساليس، المولود 1956، بتجربة شخصية تشبه تجربة عائلة “بايفا” كثيراً، فقد قضى جزءاً كبيراً من طفولته وصباه في أميركا وأوروبا بصحبة أبيه الديبلوماسي، قبل أن تعود العائلة إلى البرازيل عقب الحكم العسكري، وقد عايش فترة السبعينيات، ولاحقا ربطته صداقة بإحدى بنات عائلة بايفا!
هذا أيضا فيلم ذاتي، مفعم بذكريات ومشاعر مخرجه، ومن ثم هذه القوة والأثر الذي يتركه الفيلم على المشاهد.
* ناقد فني