قبل أكثر من 70 عاماً، انطلقت في الولايات المتحدة إحدى أكثر الحملات السياسية إثارة للجدل. وقتها، قاد السيناتور الجمهوري الراحل جوزيف مكارثي، سلسلة من التحقيقات ضد مسؤولين ومثقفين وفنانين بدعوى “تعاطفهم مع الشيوعية”، وسرعان ما تحولت الحملة، التي عُرفت لاحقا بـ”المكارثية”، إلى مرجع للتشهير والاتهام بلا أدلة، وظلت منذ ذلك الحين صفحة لا يفتخر الأميركيون بذكرها.
إلّا أن الفصل الذي طواه التاريخ عاد مجدداً إلى دائرة الجدل. ففي مقابلة مع مجلة “ذي أتلانتك”، دافعت الناشطة اليمينية، لورا لومر، عن دور لَعِبته طوال الأشهر الماضية، في إقناع الرئيس دونالد ترمب بإقالة مسؤولين في إدارته بدعوى “عدم ولائهم” له، ما وصفته المجلة الأميركية بأنه إعادة إحياء لـ”المكارثية”.
لكن لومر، المعروفة بقربها من الرئيس ترمب، لا تُعدٌّ أول النشطاء اليمينيين الذين يدافعون علنا عن “المكارثية”، كسياسة تلاحق بها إدارة ترمب الموظفين الفيدراليين، أو حتى السياسيين الجمهوريين، ممّنْ تُثار شكوكٌ حول ولائهم للرئيس.
“توصيات” لومر.. وإعادة إحياء “المكارثية”
في مطلع أبريل الماضي، كشفت تقارير صحافية أن اجتماعاً دام لنحو 30 دقيقة داخل المكتب البيضاوي، بين الرئيس الأميركي والناشطة اليمينية، لورا لومر، حثّت خلاله الرئيس على “تطهير” إدارته من أي موظف لا يلتزم بأجندة حركته “لنجعل أميركا عظيمة مجدداً”.
وفي اليوم التالي، قرر ترمب إقالة عدد من موظفي مجلس الأمن الوطني. لكنه نفى حينها وجود علاقة بين قراراته و”توصيات لومر” التي شملت أشخاصاً، لم يسمّهم الرئيس، قبل أن يصف الناشطة الأميركية بأنها شخصية “شديدة الوطنية وذات بأس”.
وبحسب صحيفة “نيويورك تايمز”، فقد دفعت مساعي لومر للإطاحة “بغير الموالين لترمب” بعضاً من مسؤولي الإدارة المعروفين بانتمائهم لأقصى اليمين، لأن ينظروا للناشطة الشابة باعتبارها “ذات توجهات متطرفة”.
وقالت شبكة MSNBC الأميركية إن لومر أمضت جانباً كبيراً من عام 2025 في استهداف مسؤولين في وكالات وهيئات فيدرالية مختلفة، ونجحت في إقالتهم، “ليس لفشلهم المهني، بل لأنها شكّكت في ولائهم السياسي والفكري”.
الحملة التي تقودها لومر، قارنتها مجلة “ذي أتلانتك” بأحداث شهدتها الولايات المتحدة في خمسينيات القرن الماضي، والتي عُرفت بـ”الفزع الأحمر” أو (Red Scare)، حين مارس السيناتور الراحل جوزيف مكارثي أسلوباً مماثلاً لإقصاء من اتهمهم “بالتعاطف مع الشيوعية” عن المجال العام.
وفي تصريحاتها للمجلة الأميركية، دافعت لومر عن إجراءات مكارثي، قائلة إنه “كان محقّاً”، كما دعت لإعادة إحياء تلك التجربة، مضيفةً: “علينا أن نجعل مكارثي عظيماً من جديد”، في ما يشبه شعار تيار MAGA أو “لنجعل أميركا عظيمة مجدداً”، الذي يقوده ترمب داخل الحزب الجمهوري.
المكارثية.. فصل مظلم في التاريخ الأميركي
في أوائل خمسينات القرن الماضي، وبعدما قضت الولايات المتحدة وحلفاؤها على “النازية” خلال الحرب العالمية الثانية، برز أمام واشنطن عدو جديد، هو الاتحاد السوفيتي، وما تبناه من “فكر شيوعي” اعتبره الساسة الأميركيون حينها مصدر تهديد مباشر لمبادئ الرأسمالية الأميركية، ما عُرف بين الأكاديميين باسم “الفزع الأحمر”.
وفي هذه الأثناء، زعم السيناتور الجمهوري من ولاية ويسكونسن، جوزيف مكارثي، أن لديه قائمة بأسماء “شيوعيين” يعملون ضمن وزارة الخارجية الأميركية، ليبدأ مكارثي، في عام 1950 (خلال ولاية الرئيس هاري ترومان)، حملة استجوابات أمام لجنة التحقيق في الأنشطة المعادية لأميركا التابعة لمجلس الشيوخ، والتي كان مكارثي رئيساً لها آنذاك.
وعلى مدار السنوات الأربع اللاحقة، اتسعت “قائمة مكارثي”، لتشمل أكاديميين وعلماء ودبلوماسيين وفنانين، كلهم واجهوا سؤاله الأكثر شهرة: “هل أنت شيوعي، أو كنت شيوعياً يوماً ما؟”.
ورغم عدم ثبوت اتهامات مكارثي على كثير ممن أُدرجوا في قوائمه، فقد أسفر التشهير بهم عن خسارتهم وظائفهم، وهو المصير الذي واجهه عالم النفس الراحل في جامعة هارفارد ليو كامين، أو منعهم من العودة إلى الولايات المتحدة، مثلما حدث مع الممثل الإنجليزي الراحل تشارلي شابلن.
لكن سرعان ما انقلب الرأي العام الأميركي ضد “مكارثي”، حين وجّه اتهامات “عدم الولاء” لضباط في الجيش، خلال جلسة عُقدت عام 1954، هاجم فيها محامي الجيش، جوزيف ويلش، مكارثي قائلاً: “أليس لديك أي قدر من الحياء يا سيدي؟”.
وبختام العام نفسه، صوّت الكونجرس لإدانة جوزيف مكارثي، بسبب سلوكه وإساءة استخدام سلطاته ونشر اتهامات بلا دليل ضد موظفين حكوميين وتشويه سمعة جنود وعسكريين سابقين، ليصبح مكارثي معزولاً سياسياً، إلى أن توفي عام 1957، عن عمر ناهز 48 عاماً.
“مكارثية لومر”.. هل يستمع ترمب دائماً؟
في حوارها مع مجلة “ذي أتلانتك”، والذي شمل دفاعاً عن “المكارثية”، أيدت لورا لومر تصريحات سابقة للرئيس الأميركي دونالد ترمب، أرجع فيها تقويض إدارته الأولى إلى “ضعف التدقيق” في خلفيات المعينين في تلك الإدارة.
ووفقاً للمجلة الأميركية، فقد بات ترمب يشدّد من مراجعة وفحص مواقف مرشحيه لمختلف المناصب في إدارته الثانية، رغم أنه “أبدى تسامحه” مع أشخاص وجّهوا له انتقادات في السابق، لكنهم تحولوا إلى دعمه بشكل لافت، وفي مقدمة هؤلاء نائبه جي دي فانس، ووزير خارجيته ماركو روبيو.
وذكرت المجلة الأميركية أن لومر تحظى بمكانة خاصة لدى ترمب، إذ “لا يستمع لتوصياتها وحسب، وإنما ينفذ ما تريد”.
وتفاخرت لومر في منشوراتها على مدار الأشهر الأخيرة، بتنفيذ إقالات لمسؤولين في الإدارة الحالية تطابقت مع توصياتها و”استنتاجات تحقيقاتها” التي أجرتها بوصفها صحفية استقصائية، حين أشارت إلى أن 29 اسماً، من أصل 37 أقالهم ترمب في وزارة الأمن الداخلي، في يوليو الماضي، كانت قد اتهمتهم سابقاً بالسعي إلى “الإضرار بترمب وبالبلاد”.
كما تجد منشورات لومر صدى لدى الوزارات والوكالات الفيدرالية الأخرى، ففي منتصف أغسطس الجاري، انتقدت الناشطة المناصرة لترمب استقبال أطفال مصابين من قطاع غزة لتلقي العلاج في الولايات المتحدة، ووصفته بأنه “تهديد للأمن القومي” لبلادها.
ولم يمض يوم على انتقادات لومر، حتى أعلنت وزارة الخارجية الأميركية عن إيقاف جميع تأشيرات الزيارة للأفراد القادمين من قطاع غزة لحين إجراء “مراجعة شاملة ودقيقة”، وهو ما اعتبرته الناشطة المقربة من ترمب “استجابة سريعة” لتعليقاتها.
وتنحدر لورا لومر من عائلة يهودية في فلوريدا، وهي من أبرز المؤيدين للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتعتبر نفسها صوتاً مدافعاً عن اليهود في الولايات المتحدة.
ورغم ذلك، لا تتطابق توجهات ترمب في اختيار مسؤوليه دائماً مع ما تنشره لومر، فقد أبدت الناشطة اليمينية اعتراضاً على اختيارات ترمب لبعض المناصب خلال إدارته الثانية، دون استجابة من الرئيس.
وخلال الأسابيع الماضية، هاجمت لومر ترشيح ترمب للطبيبة كايسي مينز لمنصب “الجراح العام”، واعتبرتها ضمن ما وصفتها بـ”الطليعة الماركسية”، التي توجه اتهامات لوزير الصحة الحالي روبرت كينيدي الابن، بهدف “تقويض” إدارة ترمب والجمهوريين.
لكن الرئيس لم يتراجع عن دعمه لمينز وكينيدي، ففيما ينتظر ترمب اعتماد الكونجرس لترشيح كايسي مينز لأعلى منصب طبّي في البلاد، كما أبقى على دعمه لكيندي الابن، الذي ينحدر من إحدى أبرز العائلات الديمقراطية الأميركية، إلّا أن مينز وكيندي يتبنيان رؤية ترمب بشأن القطاع الصحي.
ولم يكن الاحتفاء بالمكارثية حصراً على لورا لومر دون غيرها من النشطاء اليمنيين الموالين لترمب، فخلال العام الماضي، كرر ستيف بانون، أحد أبرز المؤثرين في تيار MAGA ومستشار ترمب السابق، تصريحاته المؤيدة لإجراءات مكارثي في خمسينيات القرن الماضي، قائلاً إن السيناتور مكارثي “قام بعمل رائع” في مواجهة الشيوعية.
وخلال الوقت نفسه، قالت المذيعة السابقة بشبكة فوكس ورئيسة المراسم البروتوكولية الحالية في البيت الأبيض، مونيكا كرولي، إن مكارثي “كان محقاً” في إجراءاته التي حاولت “إطلاق صافرة الإنذار” في حقبة الخمسينيات بشأن “التغلغل الشيوعي” داخل الحكومة الأميركية.
وفي مرحلة مبكرة من حياة ترمب السياسية، كان مرشده آنذاك هو روي كون، المستشار السابق لجوزيف مكارثي خلال الفترة التي حملة ملاحقة المتهمين بالتعاطف مع الشيوعية.
ناشطة شقّت طريقها نحو الرئيس
وفي عام 2017، احتجزت شرطة نيويورك ناشطة يمينية في الرابعة والعشرين من عمرها، تُدعى لورا لومر، بعدما قطعت عرضاً مسرحياً لرواية ويليام شكسبير “يوليوس قيصر”، محتجّةً على تقديم شخصية “تشبه الرئيس دونالد ترمب” تتعرض للاغتيال خلال أحداث المسرحية.
ولم يدم احتجاز لومر كثيراً، لكنه أكسبها شهرة كأحد أكثر مناصري ترمب من أقصى اليمين الأميركي، ما سلط الضوء على توجهاتها التي وصفتها وسائل إعلام أميركية بأنها “معادية للمسلمين وللهجرة”.
فخلال العام نفسه، حُظرت لومر من استخدام خدمتي “أوبر” و”ليفت”، للنقل التشاركي، بعدما نشرت سلسلة تغريدات عبر المنصة “إكس” (تويتر سابقاً)، قالت فيها إنها لن تقبل الحصول على خدمات “سائقين مسلمين”، على خلفية “هجوم دهس”، في أكتوبر 2017، قرب مركز التجارة العالمي في مانهاتن بولاية نيويورك.
ومع صعود نجمها السياسي، خاضت لومر جولتين من الانتخابات التمهيدية للحصول على ترشيح الحزب الجمهوري للكونجرس في عامي 2022 و2024، لكنها خسرت في المرتين، كما رفضت الاعتراف بالهزيمة في المرة الثانية.
لكن هزيمة لومر في الانتخابات التمهيدية لعام 2024، وجّهتها نحو الانخراط بصورة أكبر في حملة ترمب الرئاسية، والتي أدلت خلالها بتصريحات مثيرة للجدل ومروجة لنظريات مؤامرة، من بينها اعتقادها بأن هجمات 11 سبتمبر كانت “عملاً داخلياً” نفذته الحكومة الأميركية.
وقبل مناظرة ترمب، مع المرشحة الديمقراطية ونائبة الرئيس السابقة كامالا هاريس، أدلت لومر بتصريحات وصفتها وسائل إعلام أميركية بـ”العنصرية”، حيث قالت إن فوز هاريس في انتخابات الرئاسة “سيجعل رائحة الكاري تفوح في أروقة البيت الأبيض، كما سيتم تمرير خطاباتها عبر مراكز الاتصال Call Centers”، في إشارة إلى أصول هاريس الهندية.
ورغم انتقاده، بسبب انضمام لومر لحملته، قال ترمب إنه “لا يستطيع السيطرة عليها” لأنها “روح حرة”، نافياً علمه بتصريحاتها المشككة في هجمات 11 سبتمبر.
وخلال الأشهر الأولى من ولاية ترمب الثانية، لعبت لورا لومر دوراً مؤثراً داخل الإدارة، كما تنسب تقارير صحافية لها أنها دفعت ترمب إلى إنهاء الحماية السرّية لأبناء بايدن، وإقالة مسؤولين من مجلس الأمن القومي ووكالات أمنية، وإنهاء تعيينات أكاديمية وحكومية، ما جعلها “أداة ضغط فعّالة” لدى ترمب ودائرته المقربة.
لومر، التي تصف نفسها بالصحافية الاستقصائية ومقدمة البودكاست، و”المستشارة غير الرسمية للرئيس ترمب”، وفقاً لمجلة “ذي أتلانتك”، تمتلك شركة أبحاث واستشارات، تقدم خدمات “التدقيق في خلفيات المرشحين للمناصب التنفيذية” لمصلحة عملائها الأثرياء، والتي تقول إن “عددهم زاد منذ بداية عام 2025” مع وصول ترمب إلى رأس السلطة.