كشفت الحرب التي استمرت 12 يوماً على إيران عن تحولات داخلية عميقة في البنية السياسية والعسكرية للنظام. فرغم الضربة الموجعة التي تلقتها البلاد، أفرزت المواجهة حالة تعبئة قومية غير مسبوقة عززت موقع القيادة، وأعادت رسم خطوط العلاقة بين الشارع والسلطة، وبين المؤسستين العسكرية والسياسية.
وحدة مفاجئة خلف القيادة
منذ اليوم الأول للهجوم الإسرائيلي– الأميركي، تجاوز الإيرانيون خلافاتهم السياسية والمذهبية، واصطفوا خلف القوات المسلحة والأجهزة الأمنية. ووفق ما أعلنه مسؤولون أمنيون، جرى اعتقال أكثر من 21 ألف شخص يشتبه بتعاونهم مع إسرائيل، كثير منهم كُشِف عنهم بفضل بلاغات من مواطنين، وفق ما أعلنت السلطات.
هذا التحول السريع من مجتمع ناقم على الحكومة إلى مجتمع متعاون مع الأجهزة الأمنية عكس حجم التغيير الذي فرضته الحرب على المزاج العام.
بروز النزعة “القومية الدينية”
التطور اللافت كان في خطاب القيادة العليا. فخلال مراسم عاشوراء، فاجأ المرشد الإيراني الحضور بطلب تلاوة قصيدة “أي إيران” ذات الطابع القومي، وهو ما اعتُبر إشارة رمزية إلى تحوّل أيديولوجي من التركيز على “الثورية الدينية” إلى تعزيز مفهوم “القومية الدينية”. هذا المزاج الجديد، الذي كان زبيجنيو بريجنسكي (مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد جيمي كارتر) قد حذر منه في 2004، بات اليوم واقعاً سياسياً داخلياً.
المؤسسة العسكرية: نحو استراتيجية هجومية
داخل القوات المسلحة، تكرّس توجه جديد يقوم على الاستعداد لحرب كبرى مع إسرائيل، بغض النظر عن مسار المفاوضات. قيادات عسكرية صاعدة تعتبر أن السبيل الوحيد للسلام هو عبر القوة، وأن ردع واشنطن لا يمكن أن يتحقق إلا عبر ضرب “النقطة الأضعف” في المنطقة، أي إسرائيل.
هذه الرؤية دفعت المؤسسة العسكرية إلى موقع أكثر نفوذاً على القرار السياسي، ورسخت حضور الخطوط الصقورية في مراكز القيادة.
القيادة السياسية: براجماتية تحت الضغط
في المقابل، لا يزال المرشد والرئيس الإيرانيان يعارضان خيار تصنيع السلاح النووي، على الأقل ما لم يكن “الوجود الإيراني مهدداً”. لكن البرلمان ذهب في اتجاه مغاير، إذ صوّت بالإجماع على وقف التعاون مع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وناقش الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي، قبل أن تضغط الحكومة لتأجيل هذه الخطوة.
التباين بين السلطتين التشريعية والتنفيذية يعكس حجم الضغوط التي تواجه القيادة السياسية في إدارة التوازن بين الداخل والخارج.
الشارع بين خيبة العقوبات ومطلب الردع
قبل الحرب، كان الشارع منقسماً بين دعاة المفاوضات ومعارضيها. لكن الحرب غيّرت المشهد: لم يعد النقاش حول نسب التخصيب، بل حول ضرورة امتلاك سلاح نووي لردع أي عدوان مستقبلي. حتى منتقدو السياسات الاقتصادية للحكومة باتوا يرون في امتلاك القنبلة النووية “ضمانة وجودية”. هذا التحول جعل من الصعب على أي قيادة سياسية أن تعود إلى طاولة التفاوض بذات شروط ما قبل الحرب.
معركة المدى الطويل
النظام الإيراني، الذي خرج من الحرب وهو أكثر ثقة بدعم الشارع، يحاول الآن استثمار هذه اللحظة لتعزيز أوراقه الداخلية والإقليمية. فالمزاج الشعبي بات يرى أن الوجود الإيراني في المنطقة– سواء في غزة أو لبنان– يمثل خط الدفاع الأول عن طهران.
ومع انتقال الأولوية من الأوضاع المعيشية إلى الأمن والبقاء، تبدو أمام النظام مساحة أوسع للمناورة، لكنها أيضاً أكثر خطورة إذا ما تعمق الشرخ بين خيارات العسكر وحسابات السياسة.
*كاتب ومحلل سياسي إيراني