في المدخل الرئيسي لمتحف ابن بطوطة في مدينة طنجة المغربية، يلفت انتباه الزائر صندوق خشبي قديم مطعّم بالنحاس، يضم خريطة للعالم كما رآه الرحّالة قبل سبعة قرون، في إشارة إلى البعد التاريخي لرحلاته، تبرز إلى جانبها شاشة رقمية تفاعلية، تعكس البعد المعرفي والتكنولوجي المعاصر، وتعرض مسارات ابن بطوطة العالمية عبر واجهة بصرية حديثة، شبيهة بتطبيق Google Earth.

 تعرض هذه الشاشة التفاعلية، خريطة ديناميكية تمتد من طنجة إلى مكة، مروراً بدمشق والهند والصين وشرق إفريقيا، مع نقاط مضيئة تشير إلى المدن التي زارها. عند لمس أي موقع على الخريطة، تنبثق نافذة ثلاثية الأبعاد، تعرض صوراً رقمية ووثائق ومقتنيات، تمثّل محطات في رحلته.  

تمنح هذه التقنية الرقمية الزائر، فرصة التنقّل الافتراضي بين البلدان، وكأنه يصحب الرحّالة نفسه عبر الزمن، جامعاً بين روح التاريخ وحداثة تقنيات العرض المبتكرة، التي تلائم جيل المدوّنين ومؤثّري السفر في عصر المنصّات الرقمية.

هذا التوظيف للتكنولوجيا، يجعل إرث ابن بطوطة حيّاً، فالتاريخ هنا ليس معروضاً في صناديق زجاجية جامدة، بل يتحوّل إلى رحلة رقمية جديدة.

 يسأل الزائر أمام الشاشة: “لو عاش ابن بطوطة في عصرنا، هل كان سيحمل هاتفاً ذكياً يبثّ مغامراته مباشرة للعالم، أم أنه سيبقى ذلك الرحّالة الذي يسافر من دون خرائط محددة مكتفياً بالبوصلة والحدس؟

ابن بطوطة مدوّناً عصره

 كان ابن بطوطة مدوّناً زمنه، لم تكن أسفاره مجرد تنقّلات بحثاً عن الرزق أو الاستقرار، بل كانت أسفاره أنثروبولوجية وسوسيولوجية، مدفوعة بالشغف والمعرفة، حيث كتب ملاحظاته، وسجّل ثقافات الشعوب، كما وصف العادات والأسواق والملوك والفقراء على حد سواء.

 نرى اليوم آلاف الرحالة الرقميين الذين يوثّقون رحلاتهم عبر فيديوهات قصيرة أو صور، لكن هل يمكنهم الادّعاء أنهم يملكون شجاعة ابن بطوطة، الذي عَبَر الصحارى على الجِمال من دون حماية شركات الطيران، وخاض المحيطات بقوارب تقليدية، لا تُشبه الوسائل البحرية الحديثة، ومن دون تأمين بحري؟ 

 علّق أحد زوار المتحف، وكان يحمل كاميرا رقمية: “نحن نحتاج إلى ابن بطوطة جديد، يعلّمنا أن السفر ليس فندقاً بخمس نجوم وصورة جميلة فقط، بل تجربة تعيد تشكيل شخصيتنا”.

 يقول أحد المرشدين السياحيين: “ابن بطوطة لم يكن ابن طنجة فحسب، بل هو مواطن ذو روح كونية. واليوم، طنجة نفسها تحوّلت إلى نقطة عبور بين الشمال والجنوب، بين الماضي والمستقبل”.

 ابن بطوطة وخرائط جوجل

عند زيارة متحف وبيت وضريح ابن بطوطة، ترى السيّاح العرب والأجانب يقتفون خطى رحلته التاريخية، لكنّ القصص اليوم تنتقل فوراً عبر الهواتف الذكية، فتبدو كأنها رحلة حيّة، يتفاعل معها المتابعون مباشرة، فيما كان ابن بطوطة يواجه الصعاب والمخاطر ليكتب رحلته للأبدية.

“الشرق” زارت بيت وضريح ابن بطوطة في مدينة طنجة القديمة، والتقت القيّم عليه السيد مختار بن عيشه، الذي تحدث عن الضريح وزوّاره قائلاً: “هنا وُلد ابن بطوطة وتوفي، وهنا تُجسّد عادة قديمة عند العرب والمسلمين، حيث يُدفن الشخص في بيته إذا كان ذا شأن رفيع”. 

أضاف: “تعرّض هذا المكان الواسع في زمنه لعوامل الاندثار، فلم يبق منه اليوم سوى المحراب والضريح الذي يقصده السياح من مختلف أنحاء العالم. يأتي أكثر الزوّار من الهند والصين، عرفاناً منهم بابن بطوطة الذي عاش بينهم وأحبّهم وكتب عنهم بإيجابية”.

في عالم اليوم، حيث الطائرات تختصر المسافات، أصبح السفر صناعة ضخمة، يطرح ابن بطوطة سؤالاً: هل نملك بعد شجاعة الرحّالة الأوائل، وهل نجرؤ على مغادرة مناطق الراحة لنكتشف شعوباً وثقافات من دون الاعتماد الكامل على دليل السفر؟ أو تقييمات الإنترنت؟ ولو عاش ابن بطوطة في زمننا، فهل سيستخدم خرائط جوجل مثلاً؟

لغة المكان لونياً

يقدّم المتحف تفاصيل بصرية آسرة: مجسّمات للقوافل الصحراوية، نسخ مخطوطة لرحلته، أزياء تاريخية تمثّل ثقافات الشعوب التي زارها. 

ألوان المعروضات تتدرّج بين البني الداكن والذهبي المُعتّق، ما يعكس روح الزمن الوسيط. حتى الإضاءة مصمّمة لتجعل الزائر يشعر أنه يسير على خطى الرحّالة العظيم، سواء أكان الطريق صحراوياً أم جبلياً أم بحرياً.

 تتسلل إلى المكان رائحة الخشب الصيني العتيق، بينما تختلط أصوات خطوات الزوّار بموسيقى أندلسية هادئة تنساب في الخلفية، فتخلق مشهداً سمعياً وبصرياً يستحضر الماضي. 

كما تمّ تخصيص جناح في المتحف لإرث ابن بطوطة الإفريقي: صور لمدن ممباسا وكيلوا وتنزانيا، حيث وصف المجتمعات المسلمة هناك وعاداتها التجارية. هذه القاعة مزوّدة بشاشات تعرض فيديوهات قصيرة، تدمج بين الأرشيف القديم وصور حديثة، لتوضّح كيف تطوّرت تلك المدن مع الزمن.

الرحالة الرقميون 

 يمتلك رحّالة اليوم أدوات متطوّرة وحديثة وسهلة الاستعمال: كاميرات بدقّة عالية، إمكانية البث المباشر، منصّات تصل إلى ملايين المتابعين. لكن يبقى السؤال: هل يستخدمون هذه الأدوات لاكتشاف العالم فعلاً، أم لاكتساب الشهرة فقط؟

يصرّ الرحّالة الطنجي الشهير على فكرة مفادها، أن الرحلة ليست استهلاك بصري فقط، بل هي مشروع ثقافي وفكري، فتسجيل الملاحظات يومذاك مغامرة معرفية وإنسانية تتطلب الصبر والتحليل. أما اليوم، فالنشر الفوري قد يحرم الرحّالة من التأمل العميق الذي يميّز تجربة السفر الحقيقية. 

لماذا نسافر، هل للسياحة أم الترفيه أم لاكتشاف الذات؟ ابن بطوطة لم يملك رفاهية الطائرات أو الفنادق، لكنه امتلك فضولاً لا يشبع. هذا الشغف هو ما يحتاجه الجيل الجديد من الرحالة الرقميين.

في زمن أصبحت فيه الحدود أكثر انفتاحاً، والسفر أسهل من أي وقت مضى، يظل السؤال: هل نحن مستعدون لخوض مغامرة مجهولة الوجهة؟ أم أننا نبحث فقط عن الراحة المصوّرة بعدسة رقمية وصور سلفي؟

يجد الزائر في نهاية الجولة بالمتحف، شاشة تفاعلية تعرض خريطة رقمية تسأله: “أين ستكون رحلتك القادمة؟” ويمكنه لمس أي موقع على الخريطة لاستكشاف صور ووثائق مرتبطة به، فتتسع التجربة لتصبح رحلة بصرية ومعرفية تتجاوز حدود العرض التقليدي. تمنح هذه الواجهة الرقمية الزائر (جوازاً افتراضياً) يخلق لديه إحساساً بالمشاركة والتخطيط لرحلاته المقبلة، ويحوّل الزيارة من مجرد مشاهدة إلى تفاعل يربط الماضي بروح السفر الحديثة.

ديبلوماسية وأدب الرحلات عربياً 

 لم يَعدّ ابن بطوطة مجرد اسماً في كتب الجغرافيا لا غير، بل أصبح أيقونة عالمية للسفر والاكتشاف، وهذا ما يبرهن المتحف عليه، إذ يمكن أن يعيش الإرث الثقافي في قلب العصر الرقمي، إذ إن روح المغامرة القديمة، قادرة على إلهام جيل جديد من الرحالة الرقميين، الذين قد يغيّرون وجه السفر القديم كما كنا نعرفه.

ربما، سيكتب أحدهم مستقبلاً، في القرن الحادي والعشرين، وُجد جيل جديد من الرحالة الذين حملوا هواتفهم بدلاً من ركوب الجِمال، لكنهم، مثل ابن بطوطة، سعوا إلى رؤية العالم بعيون مفتوحة وقلوب لا تخاف من المجهول.

تقنيات تحويل الإرث إلى مستقبل

يُعدّ تاريخ الرحلات العربية، انعكاساً مباشراً لتطوّر الوعي الجغرافي والمعرفي في الحضارة الإسلامية، حيث برزت شخصيات أسهمت في صياغة هذا الوعي ورسم صورة دقيقة للعالم في زمنها. ومن بين هذه الشخصيات يبرز اسمان محوريان: ياقوت الحموي وابن فضلان.

تمثل تجربة ياقوت الحموي نموذجاً استثنائياً؛ إذ بدأت حياته أسيراً نُقل صغيراً إلى بغداد، ليعمل في الوراقة عند تاجر، أعتقه لاحقاً بعد أن لمس نبوغه وشغفه بالعلم. أتاح له هذا التحوّل من العبودية إلى الحرية، فرصة الانخراط في المعرفة، فتنقّل بين مدن عدّة، وجمع مادة جغرافية واسعة مكّنته من تأليف واحد من أعظم مؤلفات التراث العربي: “معجم البلدان”، الذي جمع بين المشاهدة الميدانية والتوثيق العلمي الدقيق.

أما رحلة الأنثروبولوجي ابن فضلان، فجاءت بتكليف رسمي من الخلافة العباسية إلى بلاد الصقالبة وما وراء النهر، وكانت مهمتها ذات أبعاد سياسية ودينية. أسفرت الرحلة عن تدوين “رسالة ابن فضلان”، التي تُعدّ من أصدق الشهادات الإثنوغرافية العربية، حيث قدّم وصفاً تفصيلياً لعادات وطقوس شعوب الشمال، بما في ذلك الفايكنغ الروس وطقوس الدفن لديهم. وتمثّل هذه الرسالة نموذجاً مبكراً لتقاطع المعرفة الجغرافية مع الدبلوماسية والعمل الميداني.

تشير هاتان التجربتان، إلى أن الرحلة في التراث العربي، لم تكن مجرّد انتقال في المكان، بل مشروعاً معرفياً يعكس طموح الإنسان إلى اكتشاف العالم وفهم ثقافاته، كما تمهّد لفهم نموذج لاحق أكثر شمولاً، تمثّل في رحلة ابن بطوطة التي جمعت بين الترحال الطوعي، والشغف بالاكتشاف، والوعي بوحدة التجربة الإنسانية.

هكذا، وبالاستعانة بالتقنيات الرقمية الحديثة، يستطيع مخرج سينمائي أو محترف في مجال التقنيات الرقمية، إنتاج برنامج للأطفال عن رحلة ابن بطوطة، وهنا تتجلى الغاية الحقيقية من اعتماد هذه التقنيات الحديثة.

شاركها.