قالت النيابة العامة في كوريا الجنوبية إن “طلعات سرية” بطائرات مسيّرة انطلقت من شمال البلاد باتجاه بيونج يانج، كانت جزءاً من خطة دبّرها الرئيس السابق يون سوك يول لاستفزاز زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون، وخلق “حالة حرب”، بهدف إعلان الأحكام العرفية.
وكشفت النيابة العامة في سول تفاصيل جديدة حول ما وصفته بأنه مخطط سبق محاولة فاشلة لإعلان الأحكام العرفية، بعد اطلاعها على مذكرات عُثر عليها في هاتف مسؤول دفاعي رفيع، تشير إلى أن الخطط التي وضعها الرئيس السابق ومسؤولان كبيران آخران في وزارة الدفاع، كانت تهدف إلى استفزاز كيم لحد يبرر إصدار أمر السيطرة العسكرية الذي أصدره في ديسمبر الماضي، بحسب ما أوردت شبكة CNN الأميركية، الجمعة.
وأفرج المدعون عن الأدلة، الاثنين، في خطوة اعتبرت بمثابة تأكيد لمزاعم كوريا الشمالية بأن جارتها الجنوبية أرسلت طائرات مسيّرة سرية لإسقاط منشورات مناهضة للنظام في أكتوبر الماضي، وهو ما دفع كيم يو جونج، شقيقة الزعيم الكوري الشمالي، إلى إصدار بيان “حاد”.
وردّت بيونج يانج على ذلك بقطع جميع الطرق وخطوط السكك الحديد مع الجنوب، وفجّرت طريقين داخل أراضيها، لكنها توقفت عند هذا الحد دون اللجوء إلى عمل عسكري.
وبعد أسابيع، أعلن يون الأحكام العرفية بدعوى “حماية الجنوب الليبرالي من القوات الشيوعية في كوريا الشمالية”.
وسُحب هذا القرار المفاجئ خلال ساعات، بعدما نجح نواب البرلمان في تجاوز القوات المحيطة بالمجلس للتصويت على إسقاطه، في خطوة شكّلت بداية النهاية السياسية ليون، وما زالت قضيته مستمرة أمام المحاكم حتى اليوم.
وزادت لائحة الاتهام الجديدة من تعقيد التداعيات القانونية التي يواجهها يون، بما في ذلك محاكمته الحالية بتهمة التمرد. وتكشف الأدلة الأخيرة مزيداً من ملامح “لغز سياسي لم تتضح تفاصيله بالكامل بعد”.
وينفي يون إصدار أي أوامر بتحليق طائرات مسيّرة فوق بيونج يانج بهدف استفزاز كوريا الشمالية، أو محاولته تدبير تمرد عبر إعلان الأحكام العرفية. واعتبرت محاميته يو جونج هوا أن لائحة الاتهام “تمثل موقفاً منحازاً”، وتفتقر إلى “أبسط مبادئ المنطق القانوني”، فضلاً عن كونها “سخيفة”.
لكن بارك جي يونج، المتحدثة باسم مكتب الادعاء، قالت إن المحققين “مصدومون” مما اكتشفوه، ونشروا مذكّرات قالوا إنها تدعم ادعاءاتهم.
طائرات مسيّرة فوق منزل كيم
تعود الاتهامات إلى أكتوبر 2024، حين ذكرت وسائل الإعلام الرسمية في كوريا الشمالية أن طائرات مسيّرة من كوريا الجنوبية اخترقت أجواء بيونج يانج عدة مرات، وأسقطت منشورات مناهضة للنظام.
ونشرت وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية صوراً تُظهر إحدى الطائرات عالقة في شجرة، ووصفها محللون بأنها تشبه طائرة من دون طيار يستخدمها الجيش الكوري الجنوبي.
كما عرضت الوكالة صوراً لطائرة مسيّرة أخرى قالت إنها حلّقت على ارتفاع منخفض فوق منزل الزعيم الكوري الشمالي.
ونقلت CNN عن كيم بيونج جو، الجنرال الكوري الجنوبي المتقاعد وعضو البرلمان الحالي عن “الحزب الديمقراطي” الحاكم (المعارض سابقاً لحزب يون)، قوله إنه تلقّى تفاصيل تلك الرحلات الجوية من داخل قيادة عمليات الطائرات المسيّرة في الجيش الكوري الجنوبي.
وأشار كيم إلى أن الرحلات نُفذت في فترة ثلاثة أيام على الأقل، هي 3 و8 و9 أكتوبر 2024، إضافة إلى 13 نوفمبر من العام الماضي.
وأضاف: “الهدف من إرسال الطائرات إلى قلب كوريا الشمالية وإسقاط منشورات مناهضة لكيم جونج أون كان تحركاً استفزازياً يهدف إلى دفع الشمال لاتخاذ إجراءات عسكرية، كان الأمر أشبه بوضع سكين على عنق كوريا الشمالية”.
وفي 12 أكتوبر 2024، أصدرت شقيقة الزعيم الكوري الجنوبي كيم يو جونج بياناً أدانت فيه انتهاكات المجال الجوي للبلاد، وحذرت من “عواقب وخيمة”.
ونفى وزير الدفاع الكوري الجنوبي في ذلك الوقت، كيم يونج هيون، إرسال طائرات مسيّرة إلى الشمال، لكنه عدّل موقفه لاحقاً قائلاً إنه “لا يمكنه تأكيد” ادعاءات بيونج يانج.
“خلق وضع غير مستقر”
وأفاد التقرير بأن نواب “الحزب الديمقراطي”، وبعد فشل يون في فرض الأحكام العرفية، دعوا إلى فتح تحقيق في مزاعم تتعلق بتورطه في افتعال أزمة أمن قومي.
ومع تولّي الحزب للسلطة، أقرّ النواب قانوناً لتعيين مستشار مستقل، ونشر مذكّرات، الاثنين، قال إنها تحتوي على أدلة حول مناقشات سرية بشأن خطة يون لاستفزاز كوريا الشمالية.
والملاحظات التي عُثر عليها في هاتف يو إن هيونج، القائد السابق لجهاز الاستخبارات المضادة في وزارة الدفاع، تضمنت إشارات إلى “خلق وضع غير مستقر”، وفق ما أكدته النيابة.
وجاء في مذكرة بتاريخ 18 أكتوبر: “يجب إيجاد واستغلال فرصة لا تتكرر، يمكن أن تؤدي إلى تأثير قصير المدى. ولتحقيق ذلك علينا خلق وضع غير مستقر أو استغلال فرصة قائمة”.
وفي مذكرة أخرى: “يجب استهداف مواقع تفقد فيها كوريا الشمالية هيبتها لدرجة تشعرها بأنها مضطرة للرد”، وشملت المواقع العاصمة، ومنشأتين نوويتين، ومقرات كيم الصيفية، بالإضافة إلى سامجيون ومنتجع وونسان.
وتعد سامجيون موقعاً رمزياً في كوريا الشمالية، لكونها مسقط رأس كيم جونج إيل، والد الزعيم الحالي، وترتبط بجده ومقاومته ضد اليابانيين، فيما يُعد منتجع وونسان أحد مشاريع التطوير الكبرى لكيم جونج أون، ويُشاد به باعتباره “نجاحاً كبيراً”.
توقعات رد كيم: “طوفان نوح”
وتضمنت مذكرة بتاريخ 23 أكتوبر، بعنوان “الهدف والوضع النهائي”، عبارات مثل: “في الحد الأدنى: أزمة أمن قومي”، و”في الحد الأقصى: طوفان نوح”.
وفي مذكرة لاحقة بتاريخ 5 نوفمبر جاء فيها: “يجب أن يأتي فعل العدو أولاً.. يجب أن تكون هناك حالة حرب أو وضع لا يمكن للشرطة السيطرة عليه، علينا خلق ظروف تُجبر العدو على التصرف.. نحتاج إلى انتظار الفرصة الحاسمة”.
وقالت متحدثة باسم مكتب الادعاء، إن قوانين السرية العسكرية تمنع الكشف عن مزيد من التفاصيل، لكنها أشارت إلى أن دفتر ملاحظات يعود إلى قائد الاستخبارات الدفاعية السابق نو سانج وون، يُظهر أن النقاشات والاستعدادات لإعلان الأحكام العرفية بدأت على الأرجح في أكتوبر 2023، بعد عملية إعادة هيكلة واسعة في صفوف قيادة الجيش.
وأضافت أن “قيام الرئيس ووزير الدفاع، وفقاً للادعاءات، بمحاولة استغلال التوترات العسكرية بين الكوريتين لتهيئة الظروف لإعلان الأحكام العرفية أمر غير مقبول إطلاقاً”.
وأشار النائب كيم بيونج جو، إلى أنه فوجئ بعدم إصدار الزعيم الكوري الشمالي أي أمر بالرد العسكري، رغم رصد الطائرات المسيّرة فوق العاصمة، وقال: “من حسن حظ كوريا الجنوبية أن جارتها الشمالية اكتفت بالتهديدات، ولم ترد عسكرياً، لو قررت كوريا الشمالية الرد بعمل عسكري، لكان الوضع قد تصاعد إلى صراع”.
كما أضاف أن “إرسال كوريا الشمالية أكثر من 10 آلاف جندي للمشاركة في القتال إلى جانب روسيا في أوكرانيا ربما حال دون اتخاذ كيم مزيد من الإجراءات”، موضحاً: “ربما كان من الصعب على كوريا الشمالية الحفاظ على جبهتي حرب، إذ كان ذلك سيترك فجوة كبيرة في قدراتها القتالية”.
ويواجه الرئيس السابق يون، إلى جانب مسؤولَي الدفاع السابقين كيم ويو، اتهامات بإلحاق الضرر بمصلحة الدولة عبر “مساعدة العدو” وإساءة استخدام السلطة، بينما يخضعون لمحاكمة منفصلة بتهمة التمرد المرتبطة بإعلان الأحكام العرفية.
ولم يدل الجيش الكوري الجنوبي بأي تعليق بعد على التحقيق، باعتباره لا يزال قيد الإجراءات القانونية. وبحسب وسائل إعلام محلية، أعرب يو، القائد السابق لجهاز الاستخبارات المضادة، عن ندمه العميق على عدم تحدي أوامر يون.
فرض الأحكام العرفية
الرئيس السابق يون، المحافظ المعروف بموقفه المتشدد تجاه كوريا الشمالية، فاز بفارق ضئيل في انتخابات 2022، لكن حزبه لم يحصل على الأغلبية في البرلمان، ما جعله يواجه صعوبات مستمرة في تمرير أجندته التشريعية.
وفي الثالث من ديسمبر 2024، أعلن يون في خطاب متلفز فرض الأحكام العرفية، زاعماً أن أحزاب المعارضة تضم “قوى مناهضة للدولة” تتعاون مع كوريا الشمالية.
وهبطت قوات مسلحة بالمروحيات على مبنى البرلمان، وحاولت اقتحام القاعة التي كان يتجمع فيها النواب، لكن النواب والموظفون ومواطنون غاضبون تصدوا لهم في مشاهد بُثّت مباشرة على القنوات المحلية.
ورغم نجاح البرلمان في إلغاء مرسوم الأحكام العرفية، أشعل هذا التحرك احتجاجات واسعة ودعاوى قضائية أدت في النهاية إلى عزل الرئيس السابق عبر مساءلة رسمية.
ويقول محللون إن إرسال طائرات مسيّرة إلى كوريا الشمالية كان يمكن أن يُعدّ “عملاً حربياً” يهدد بإشعال مواجهة عسكرية.
