اخر الاخبار

اضطرابات التفكير وارتباطها بالمواقف السياسية

أحمد عسيلي

واحدة من أهم دلائل الصحة النفسية، هي القدرة على التفكير الصحيح، أو المحاكمة العقلية الصحيحة، بمعنى سلامة تلقي أي معلومة، وسلامة التعامل معها، وتقديم الاستجابة المناسبة لها، هذا الأمر لا يتعلق فقط بمستوى الذكاء أو الحالة العقلية، وإنما (وهذا هو الأهم) بحالة الصحة النفسية لكل إنسان، فنفس المعلومة، يتلقاها الشخص الصحيح نفسيًا بشكل مختلف عن ذاك المصاب باضطرابات في الشخصية أو الفصام مثلًا، بل حتى في حالة الإنسان ذاته، فنفس الموقف أو نفس المعلومة، سيختلف تلقيها ورد الفعل تجاهها بين حالتي الطمأنينة والراحة من جهة، وحالة القلق أو الاكتئاب من جهة أخرى.

لذلك يعتبر فحص حالة التفكير (مجرى التفكير ومحتواه) من أهم أجزاء المقابلة النفسية، فحتى أبسط أشكال الاكتئاب، سينعكس بشكل ما على طرق التفكير، بدءًا من أصغر معلومة أو حادثة على مستوى الحياة اليومية، وحتى مستوى أعقد الأفكار والقرارات السياسية.

ولتوضيح ذلك، دعونا نأخذ مثالًا بسيطًا، من موقف قد يحصل في أي يوم عادي، تخيلوا أن أحدًا ما يجلس مع صديقه، وفي لحظة ما نظر هذا الصديق إلى ساعة يده، وهنا لو كان هذا الإنسان سليمًا نفسيًا، فسيعتقد أن تصرف صديقه هذا إما لمجرد معرفة الوقت، أو لارتباطه بموعد ما، وهذا أمر طبيعي جدًا ولن يترك أي أثر عنده، أما لو كان مصابًا باضطراب نفسي ما، كالاكتئاب الخفيف مثلًا، فسيعتقد أن صديقه هذا، قد أصابه الملل من جلوسه معه، ولو كان اكتئابه هذا أكثر شدة، فسيعمم هذا الحدث البسيط ويعتقد أنه هو بذاته شخص ممل وغير محبوب (النظرة الدونية للذات من أهم علامات الاكتئاب)، ولو كان فصاميًا وبمراحل متأخرة، لربما اعتقد أن صديقه هذا ينتظر أحدًا ما ليقوم بجريمة ضده.

هذا على مستوى تلقي المعلومة، أما على مستوى الاستجابة لها، أو ما يدعى تقنيات المواجهة (coping mechanism) فهي تعتمد أيضًا على الحالة النفسية لكل شخص، ففي مثال الساعة السابق، الإنسان السليم نفسيًا، ربما سيهمل هذا الحدث دون أن يعيره أي انتباه، أو ربما يسأل صديقه بكل بساطة عن سبب نظرته إلى ساعة يده، أو إن كان لديه أي التزام آخر، وهي حالة استجابة طبيعية لموقف بسيط، أو ربما يسلك طرقًا أخرى مرضية من خلال كبت تلك الأسئلة، لتتحول إلى مشاعر سلبية، ستؤدي إلى مقاطعة صديقه، أو غيرها من عشرات ردود الفعل التي تدل على حالة غير سويّة. إذًا، الحدث البسيط هو ذاته، لكن الشخص سيعتمد في تفسيره على حالته النفسية هو، وليس بالضرورة على الحدث نفسه.

وقد يكون الإنسان سليمًا نفسيًا، ثم يشهد حدثًا ما، نسميه في الطب النفسي العامل المطلق، فيسبب ظهور العديد من الأمراض والاضطرابات النفسية التي كانت بحالة كمون، وسبّب هذا العامل المطلق ظهورها بل وسيطرتها الكاملة على الإنسان. من أمثلة هذه العوامل المطلقة مثلًا حادثة الحمل والإرضاع على طبيعته كحادث عند أي امرأة سويّة، لكنه قد يسبب اكتئابًا أو حتى فصامًا (يسمى ذهان ما بعد الولادة) عند المرأة التي لها استعداد نفسي كامن لهذا المرض، بل أحيانًا أي حادث مروري أو تغير عنيف، قد يطلق بعدها اكتئابًا أو قلقًا أو فصامًا كامنًا، وقد يكون التغير مفرحًا، كربح مليون دولار في ورقة “يانصيب” مثلًا، قد تلحقها تغيرات في الشخصية، غالبًا ما يعتقد الأهل أو المحيط، أن هذا الحدث هو المسبب الأساسي للمرض، لذلك نسمع عبارات من قبيل: “دكتور من لما عمل الحادث وهو يتكلم بهذا الشكل”، أو: “من حادثة الطلاق وهو يتصرف هكذا”، وغالبًا ما يكون هذا الربط الزماني صحيحًا، لكن ليس الحادث بحد ذاته هو المسبب لهذا المرض، وإنما هو مجرد العامل المطلق لاضطراب كامن فيه.

وما حدث في وطننا الحبيب مؤخرًا من سقوط لنظام الأسد، بعد 14 عامًا من ثورة دامية، يعتبر شيئًا عظيمًا بكل المقاييس، سبّب حالات من الفرح الشديد لدى البعض، حالات خوف وقلق لدى آخرين (سواء كانوا مؤيدين للأسد أو معارضين له)، زعزع أسس استقرار العديد من السوريين، وسبب إرباكًا نفسيًا لدى نسبة كبيرة مننا، تبعته اضطرابات كبيرة في المحاكمة العقلية، بدأنا نشهدها من لحظة تحرير حلب، فرغم التغيرات التاريخية الكبيرة لذاك الحدث، شاهدنا تركيز البعض على حوادث هامشية جدًا، ما يعكس عدم قدرة نفسية على استيعاب ضخامة الحدث، فالبعض يرى في أصغر انتهاك بأصغر قرية في الوطن دليلًا على إعادة إنتاج حكم الأسد، هناك صفحة “فيس بوك” مثلًا وضعت صورة لتأزم مروري في طرطوس، وأصبحت لدى البعض دليل فشل النظام.

هذه كلها حوادث لا تعكس قلة ذكاء، وإنما حالة اضطراب نفسي مرتبطة بالحالة العامة للسوريين نتيجة ظروف السنوات السابقة، وناتجة أيضًا عن طريقة استجابتهم لحدث ضخم جدًا لم تكن الأغلبية منا متهيئة له.

ولنفس الأسباب، يعتبر التقليل أيضًا من أهمية أي حدث غالبًا ما يكون مرتبطًا بحالة الفرح الشديد بعودة الوطن (وهو حدث مهم فعلًا)، فعلى ما يبدو هناك سوء إدارة حقيقية في بعض الملفات كتسريب بعض الوثائق الأمنية، ما سيكون له تداعيات اجتماعية خطيرة، هناك أيضًا ضعف في الحالة الأمنية في بعض مناطق دمشق، وهي حوادث جميعها تستدعي يقظة تامة من قبل النظام الجديد، لكن أيضًا لا تعني أبدا فقدانه لشرعيته.

طريقة تعاطي الإنسان مع واقعه، وقراءته له، لا تتعلق بذكائه وثقافته فقط، بل بحالته النفسية العامة، وبحالته أيضًا لحظة تلقيه للمعلومة، لذلك نشهد حاليًا حالات كثيرة لحذف عبارات على “فيس بوك”، وحتى التراجع عن بعض المواقف بين ليلة وضحاها (كنت شاهدًا على تلك التغيرات لدى بعض التجمعات السياسية)، لأن الكثير من تلك الأحكام ناتج عن الحالة النفسية لا غير، فأسلوب تفكيرنا مرتبط وبشكل كبير بحالتنا الوجدانية، ومن الطبيعي أن نشهد اضطرابات كثيرة في التفكير والأحكام حاليًا، لأن الحالة الوجدانية غير مستقرة أساسًا، نتيجة حالة الفرح العارم، أو الحزن العميق، أو التقلب السريع بين الاثنين معًا، وأحكامنا العقلية مرتبطة بشكل كبير بتلك التغيرات.

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.

المصدر: عنب بلدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *