بينما تركزت أنظار العالم صوب الحرب في سوريا على مدار سنوات العقد الماضي، كان الاهتمام بآثار هذا البلد بعيداً عن دائرة الضوء، وسط تقارير عن عمليات تنقيب وسرقات استهدفت مختلف المقتنيات والمواقع الأثرية على اتساع رقعة الجغرافيا السورية.
مؤخراً تناول تقرير نشرته صحيفة “الجارديان” البريطانية ما قال إنه تصاعد في وتيرة نهب الآثار في سوريا وبيعها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في ظل قصور أمني وفقر متزايد، حيث كانت المواقع التاريخية تخرج تدريجياً عن سيطرة الدولة خلال سنوات الحرب، فتحولت إلى أهداف سهلة لعصابات التهريب والتنقيب، لدرجة أن القطع الأثرية باتت تُعرض للبيع علناً على منصات إلكترونية مثل “فيسبوك” و”يوتيوب”، وعليها ينشر المنقبون والمهرّبون صوراً للتماثيل والمقتنيات المنهوبة.
لكن ما كان يعد في السابق نشاطاً خفياً على هامش الصراع، تحول اليوم إلى سوق سوداء مزدهرة، مدفوعة بتراجع قبضة أجهزة الدولة وزيادة الطلب العالمي على القطع النادرة، وبهذا لم تصبح سرقة الآثار مجرد أضرار جانبية للحرب، بل باتت مساراً موازياً للصراع السياسي والاقتصادي يجري فيه تداول ملايين الدولارات بين شبكات محلية وعابرة للحدود.
وبرزت مؤشرات على إعادة تنظيمها لتعمل بأساليب أكثر احترافاً، مستفيدة من الفوضى الأمنية وضعف الرقابة.
ونقلت “الجارديان” عن مشروع أبحاث الاتجار بالآثار وأنثروبولوجيا التراث (ATHAR)، أن ثلث حالات سرقة وتهريب الآثار السورية من بين 1500 حالة موثقة منذ 2012، وقعت خلال الأشهر الستة الماضية، ما يعكس تصاعداً ملحوظاً في هذه العمليات.
بيئة مثالية
وترى لونا رجب، مساعدة وزير الثقافة لشؤون التراث والآثار ورئيسة مجلس إدارة منظمة “إيكوموس – سوريا”، أن موجة الفوضى الأمنية التي تلت انهيار نظام بشار الأسد في ديسمبر، خلقت بيئة مثالية لتصاعد جرائم نهب الآثار وتهريبها، معتبرة أن ما جرى في سوريا ينسجم مع نمط شائع في الدول التي تمر بتغير مفاجئ في السلطة.
وقالت رجب لـ”الشرق”: “في مثل هذه الظروف، يسود شعور عام بانهيار القانون، فيستغل بعض الأفراد ضعف الدولة للسطو على المتاحف أو القيام بعمليات تنقيب غير شرعي بحثاً عن كنوز مدفونة”.
وتوضح المسؤولة أن المتاحف السورية، لا سيما في المدن الكبرى، كانت هدفاً مباشراً لهذا السلوك، ما دفع الكثير من العاملين في قطاع الآثار إلى التدخل لحماية المؤسسات بأدوات محدودة وفي ظروف بالغة الخطورة.
وتشير رجب إلى أن ظاهرة التنقيب غير المشروع ليست جديدة، لكنها اتخذت بعد سقوط النظام طابعاً أكثر تنظيماً وخطورة، خصوصاً في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة، حيث شاركت عصابات مدربة وكذلك أفراد مدنيون في التنقيب، تحت تصور خاطئ بأن ما يُستخرج من الأرض أصبح “ملكاً شخصياً”، رغم وضوح القوانين التي تجرّم هذه الأفعال وتفرض عقوبات مشددة على مرتكبيها.
جهات رسمية تحاول الردع
وتضيف رجب أن هذه الحفريات لا تزال تحدث بشكل شبه يومي، مستفيدة من هشاشة الرقابة وانكماش سلطة الدولة، لكنها تؤكد أن تحركاً حكومياً منسقاً بدأ مؤخراً للحد منها.
وتابعت: “وزارة الثقافة أعلنت النفير العام، وتم إطلاق تنسيق مشترك مع وزارات الدفاع والداخلية والأوقاف والإدارة المحلية، يشمل هذا التنسيق حملات تفتيش ومصادرة أدوات تنقيب بالإضافة إلى ملاحقة المتورطين حتى ممن يحاولون التغطية على نشاطهم عبر أعمال تجارية ظاهرية”.
وأشار تحقيق “الجارديان” إلى أن الحكومة السورية الجديدة حثت اللصوص على التوقف عن الحفر، وعرضت مبالغ لمن يُسلم الآثار بدلاً من بيعها، وهددت المخالفين بالسجن لمدة تصل إلى 15 عاماً، لكن دمشق، المنشغلة بإعادة بناء بلد مُدمّر وإعادة فرض سيطرتها، لا تملك سوى موارد محدودة لحماية تراثها الأثري، وفق الصحيفة.
أما ما يتعلق باستعادة القطع الأثرية المهربة، فتصفه لونا رجب بأنه مهمة بالغة الصعوبة، خصوصاً أن معظم القطع تُستخرج دون تسجيل علمي أو وثائق تثبت منشأها، ما يجعل تعقبها في الأسواق العالمية أمراً شائكاً.
وتقول رجب: “نتعاون مع شبكات دولية متخصصة، مثل شبكة Artive التي ساعدت في استعادة آثار عراقية سابقاً، كما نشارك في مؤتمرات دولية مثل C Traffic King التي تسهّل عملية تتبع القطع وتوثيق مصادرها وتاريخ خروجها، ثم تحويل الملف إلى الجهات الرسمية المختصة لاسترجاعها عبر قنوات قانونية ودبلوماسية”.
وتشدد المسؤولة السورية على أهمية دور المنظمات الدولية في توعية الرأي العام العالمي بحجم الدمار الذي طال التراث السوري، سواء على يد التنظيمات المسلحة أو نتيجة عمليات القصف والتدمير العشوائي.
وتقول: “عندما يعرف المجتمع الدولي ماذا حدث لأسواق مثل سوق حلب المسقوف – وهو من أطول الأسواق المسقوفة في العالم – يصبح من الأسهل حشد الدعم الفني والمالي لترميمه.. لذلك نحتاج إلى مزيج من التوثيق والتواصل الدولي والضغط الحقوقي والثقافي لحماية ما تبقى من تراثنا”.
وتشير المسؤولة السورية إلى أن حماية التراث السوري يجب ألا تقتصر على الداخل، بل يجب أن تمتد إلى الضغط على الجهات الخارجية للامتناع عن شراء القطع المسروقة، ورفع مستوى الوعي العالمي بأهمية هذا الإرث الثقافي المتفرد.
التراث يتحول إلى حجر بناء
لم تكن الآثار ومواقعها هدفاً لعمليات التنقيب فحسب، بل تحول بعضها إلى ملجأ لنازحين أو مصدر لاستخراج مواد البناء، فيقول عدنان المحمد، وهو عالم آثار سوري، إن مواقع، مثل كسيجبة ودار قيتا، تحولت إلى قرى سكنية في حين اختفى بعضها تماماً تحت الخيام والمباني الإسمنتية.
وفي تصريح لـ”الشرق”، قال المحمد: “في موقع الكفير، تم تجريف الأرض بالكامل بواسطة جرافات ثقيلة، دون أي اكتراث لقيمتها التاريخية. وفي عين دارة، سرقوا منحوتة الأسد البازلتي الكبير وقسموها إلى 3 أجزاء، نقل أحدها إلى مناطق النظام، ولا نعلم حتى اليوم مصيرها”، بينما انتشرت في مناطق أخرى ورش تخصصت في تكسير الحجارة الأثرية وتشذيبها وبيعها، لتتحول الحجارة من رموز حضارة إلى سلعة تجارية تباع على الأرصفة.
اللافت بحسب المحمد أن نهب التراث لم يعد أمراً سرياً، وأن “أجهزة كشف المعادن تُباع في الأسواق بشكل علني، والقطع الأثرية تُعرض على منصات فيسبوك ويوتيوب، والتنقيب لم يعد بدافع الجوع، بل هواية تجارية بسبب غياب الردع، حتى أن زارة الداخلية لم توقف شخصاً واحداً في 6 أشهر”.
ويؤكد عالم الآثار السوري أن هذا القصور ليس أمنياً فقط، بل يمتد إلى مؤسسات الآثار نفسها، مشيراً إلى أن المديرية العامة للآثار “تكاد تكون عاجزة، فلا ميزانيات، ولا موظفين، ولا حتى وسائل نقل.. في وقت تخرّج فيه كليات الآثار مئات الطلاب سنوياً، بلا أي فرصة للعمل ضمن اختصاصهم”.
من يوقف “هواة” النهب؟
رغم هذا الواقع، تظهر بين الحين والآخر مبادرات محلية تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ويقول المحمد: “كنا نعمل كحلقة وصل بين الناس والسلطات في إدلب، نحاول إقناع السكان بعدم استخدام الأبنية الأثرية للسكن وأن يستفيدوا من المساحات الفارغة بدلاً منها”، موضحاً أن الوعي المجتمعي بدأ يتغير تدريجياً، وأن هناك من بدأ يوثق ما يجري من تعديات ويرسله للباحثين والجهات المختصة.
ويشير المحمد إلى أن “سوريا تضم أكثر من 700 قرية أثرية يرجع تاريخها إلى الفترة التي تتراوح بين القرن الأول إلى السابع الميلادي، وإذا استثمرناها بطريقة صحيحة يمكن أن تُدر ملايين الدولارات للمجتمع المحلي وتغيّر النظرة إلى التراث، من عبء إلى فرصة تنموية حقيقية”.
وختم عالم الآثار السوري تصريحه بالقول إن هناك “حاجة لتفكير خارج الصندوق، وإلى إرادة حقيقية، لا مجرد شعارات تُكرّر منذ أيام النظام السابق”.
تجارة ممنهجة
ويرى مدير مركز الشرق للبحوث في واشنطن الدكتور سمير التقي أن نهب الآثار في سوريا ليس ظاهرة جديدة، وإنما امتداد لإهمال طويل وسوء إدارة رسمي بدأ حتى قبل الحرب، ويشير إلى أن “القطع الأثرية السورية كانت معرّضة للسرقة والتخريب حتى في عهد النظام السابق، إذ لم يكن هناك اهتمام حقيقي بحماية الثقافة والآثار، ووقعت عمليات نهب موثقة من المتاحف، ومنها ما جرى بعد فيضان نهر قويق في حلب، وما رافقه من أعمال تخريب واسعة.
ويضيف التقي: “ما بين عامي 2013 و2015، جرى نهب نحو 1500 رقيم أثري (قطعة أثرية)، من أصل أكثر من 12 ألف رقيم كانت محفوظة في موقع “مملكة ماري”، وهي تمثل مكتبة تاريخية لا تقدر بثمن، تسجل تاريخ تلك المدينة بكامله، بل وتوثّق حقبة حضارية لمنطقة بأسرها”.
بحسب التقي، تحولت قضية سرقة الآثار من نشاط سري إلى تجارة علنية ممنهجة تورطت فيها أطراف داخلية وخارجية، وقال: “كانت هناك شبكات غربية – من بريطانيا وفرنسا وهولندا والولايات المتحدة – تدخل سوريا تحت غطاء أكاديمي أو ثقافي، وتقوم بعقد صفقات للحصول على مخطوطات وقطع أثرية ثمينة، مما أدى إلى نشوء شبكات دولية للإتجار بالتراث السوري”.
وأضاف: “بعد اندلاع الثورة وسقوط أجزاء واسعة من البلاد من سيطرة الدولة، دخلت معظم الميليشيات على خط التهريب، مستفيدة من الفوضى الأمنية، وفي الوقت ذاته، كانت هناك جهات في أوروبا تعمل على تقييم هذه القطع وتحديد أسعارها – غالباً بأسعار زهيدة – لكنها تحقق أرباحاً مجزية للمهربين.”
ويؤكد التقي وجود شبكات منظمة في تركيا وغيرها من دول الجوار، تدير عمليات شراء وتسويق للقطع المنهوبة، قائلاً: “العملية أصبحت مؤسسية، تديرها جهات مسلحة على الأرض، بدعم من ممولين لديهم قدرات مالية كبيرة، حتى أن بعض هذه الشبكات مدعومة من داخل النظام السابق نفسه.”
غياب الإرادة الدولية
وحول الدور الدولي في كبح هذه التجارة، يعبّر الدكتور التقي عن تشاؤمه قائلاً: “لا توجد إرادة دولية حقيقية لوقف نهب التراث السوري. اليونسكو خفّضت تمويلها بشدة، والسلطات السورية الحالية لا نعلم مدى قدرتها الفعلية على حماية ما تبقى من المواقع والقطع الأثرية.”
وتابع أن “بعض الناس باتوا يتساءلون اليوم هل من الأفضل أن تحفظ هذه القطع في متحف أوروبي على أن تُترك عرضة للضياع؟ للأسف لا توجد آليات فعالة لحمايتها والقوانين الدولية تنهار تباعاً، حتى أننا أصبحنا نتردد في الإعلان عن أهمية بعض المواقع، لأن ذلك قد يجعلها هدفاً إضافياً للنهب”.
ويختم التقي بالتحذير من تفكك البنية الثقافية للبلاد، وقال في هذا الصدد: “في ظل هذه الفوضى، لا بد من تشكيل شبكات دفاع أهلية، تضم مختصين محليين في مناطق مثل اللاذقية وأوغاريت وإدلب، تكون مهمتها التوثيق والضغط والتواصل مع الجهات الدولية. لا يمكن حماية هذا التراث إلا بتضافر جهود محلية حقيقية واعية، في مواجهة شبكات عابرة للحدود، مدعومة جيداً وممولة بسخاء”.