– مارينا مرهج

يمر القطاع الصناعي في سوريا بمرحلة تتأرجح بين التعافي والضغوط، إذ تحاول الحكومة إعادة تشكيل بيئة الاستثمار عبر تحديث التشريعات وتحسين أداء المدن الصناعية.

وفي الوقت الذي يشكل الاستثمار الصناعي اليوم أحد أبرز الملفات الاقتصادية في سوريا، تواجه المنشآت الصناعية تحديات ثقيلة تتمثل في ارتفاع تكاليف الإنتاج وتدهور البنى التحتية وفجوة العمالة.

وزارة الاقتصاد والصناعة في سوريا عملت خلال عام 2025 على ترسيخ بيئة استثمارية حديثة ومنظمة، ترافقت مع عملية تطوير متوازنة للقوانين والتشريعات، وتعزيز لقدراتها التشغيلية والإدارية، للارتقاء بالأداء، ودعم المستثمرين.

تضمنت الإجراءات إصدار دليل استثمار موحد للمدن الصناعية ودليل للصناعيين والمستثمرين، والإشراف المباشر على فتح باب الاستثمار، ومتابعة الطلبات المقدمة وفق قانون الاستثمار الجديد، وتحديد التعرفة المعيارية للمقاسم الاستثمارية، وإقرار رسوم الطلبات المباشرة في المدن الصناعية الرئيسة، وتبسيط الإجراءات، وتحديد مراحل العمل ضمن خارطة استثمارية واضحة مع تحديث نظام المخالفات وضبط البناء.

وعلى صعيد التحول الرقمي، بدأت الوزارة تصميم منصة إلكترونية متكاملة تربط المدن الصناعية ببعضها، وبالجهات الحكومية وغرف الصناعة والتجارة وهيئات الاستثمار، وربطها أيضًا بالتجمعات الصناعية والورشات الرديفة وتقديم خدمات إلكترونية للمستثمرين والشركات.

وفي الإطار الدولي، فتحت مسارات لتبادل الخبرات مع إدارات المدن الصناعية في السعودية وتركيا والأردن، والتعاون مع منظمة “UNIDO” لتطوير العمل في المدن والمناطق الصناعية، إضافة إلى الاتفاق مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) لتمويل إعادة تفعيل وتأهيل خمس مناطق صناعية متضررة في حلب وإدلب ودرعا وحمص.

خلل في الأولويات

يرى الصناعي تيسير دركلت أن وزارة الاقتصاد والصناعة حاولت خلال عام 2025 إزالة العوائق التي كانت تقف في وجه الصناعيين، وتطوير البيئة الاستثمارية لهم، ولكن كان هناك خلل في ترتيب أولوياتها، وطرح مثالًا محافظة حلب، التي تضم مدينة صناعية واحدة تحتوي على 800 معمل فقط، بينما يوجد في المدينة نحو 16 إلى 18 ألف منشأة صناعية وحرفية مسجلة في غرفة الصناعة، أي أن العدد في المناطق داخل المدينة أضعاف الموجود في المدينة الصناعية.

كما أن حجم العمالة في هذه المناطق الكبرى يفوق بكثير العمالة في المدينة الصناعية، إضافة إلى أن قربها من مصادر الخدمات اللوجستية يجعل عملها أكثر سهولة، ومع ذلك ليست ضمن أولويات الوزارة.

وقال دركلت، إن الكهرباء تصل إلى المناطق الصناعية داخل المدينة عشر ساعات فقط، بينما تحصل المدن الصناعية على الكهرباء 24 ساعة، وبالسعر نفسه، وبالتالي، يضطر من يعمل في المناطق الصناعية إلى تشغيل المولدات، ما يضاعف تكاليف الإنتاج ويجعل منتجاته غير قادرة على منافسة منتجات المدن الصناعية.

وأشار إلى أن هذه الحالة موجودة في حلب فقط، بينما تحصل المدن الصناعية بدمشق وحمص وحماة على الكهرباء على مدار الساعة، معتبرًا أن “السبب وراء ما يجري في حلب لا يزال يحمل ألف إشارة استفهام”.

الاستثمار الصناعي في سوريا

الأستاذ في قسم إدارة الأعمال بكلية الاقتصاد في جامعة “دمشق” الدكتور زكوان قريط، قال في حديث إلى، إن القرارات والإجراءات التي اتخذتها الوزارة، تركت آثارًا بارزة على المشهد الاقتصادي المحلي والدولي، وتسعى هذه السياسات إلى دعم الإنتاج المحلي وتحفيز النشاط الصناعي بما يتماشى مع التنمية الاقتصادية وتقليل الاعتماد على الواردات.

وأضاف أن تركيز المعنيين في الوزارة على تحسين بيئة العمل الصناعي، من خلال تقديم تسهيلات للشركات والمؤسسات من أجل زيادة الإنتاج وتلبية احتياجات السوق المحلية المتزايدة، كان هدفه تحقيق الاكتفاء الذاتي وتعزيز القدرة التنافسية للصناعات السورية، إذ حاولت الوزارة إزالة العقبات التي يواجهها المستثمرون، التي تعوق تعزيز نشاط القطاع الصناعي.

وكانت البيئة الاستثمارية في سوريا سابقًا تعمل ضمن “أجواء مغلقة”، بلا استثمارات خارجية، ومن دون بنية واضحة للحوكمة أو أدوات قياس التقدم والتراجع، لأن السوق كان شبه معزول، ولا يتمكن العاملون فيه من الاطلاع على تجارب الدول الأخرى، بحسب الصناعي دركلت.

ووصف دركلت طبيعة الاقتصاد السوري في تلك المرحلة بأنه “اقتصاد كفاية” وليس اقتصادًا استثماريًا، وبشأن رفع شعار “الاقتصاد الحر”، فإن الوقت الحالي، برأيه، ليس التوقيت المناسب لتطبيق سوق مفتوح قائم على المنافسة التي تحكمها قاعدة الأجود والأرخص تصديرًا أو استهلاكًا.

وأشار إلى صعوبة تحقيق هذه المعادلة في ظل خروج البلاد من 14 عامًا من الحرب والحصار، وما رافقها من هجرة الصناعيين واليد العاملة، وغياب الفئة الشابة التي تغذي الصناعة بالأفكار الجديدة، مما أنتج فجوة عمرية كبيرة داخل سوق العمل، إذ كان هناك جيل تحت الـ18 وجيل فوق الـ45، وهي تركيبة لا تصنع بيئة عمل متوازنة ولا إنتاجًا قائمًا على الخبرة والعزيمة معًا.

كما أن الواقع الحالي لا يسمح بخوض المنافسة التي يتطلبها اقتصاد “السوق الحر”، فالوضع الاقتصادي “منهك”، بحسب وصفه، والمدخرات استنزفت، ولا قدرة على تطوير أدوات الإنتاج أو استيراد آلات جديدة تتيح منافسة المنتجات الحديثة.

تحديات تعوق التطور الصناعي

عرض الصناعي في مدينة حلب، خلال حديثه، مجموعة من العوائق التي تواجه الصناعة، من ارتفاع أسعار حوامل الطاقة، والبنى التحتية المتهالكة في قطاعات الكهرباء والمياه والصرف الصحي والاتصالات، ما يجعل البيئة غير مستقرة ولا صالحة لبناء استثمارات جديدة.

وقال إن العمال العائدين من الخارج يعودون ومعهم “أفكار جميلة”، كما يراها، لكن أيضًا يحملون توقعات أكبر من الواقع، طارحًا مثالًا بأن العامل الذي كان يتقاضى بين 600 و1000 دولار أمريكي في لبنان، سيجد صعوبة في تقاضي 200 دولار في سوريا، ما يخلق خللًا واضحًا في سوق العمل.

وأكد قريط ما سبق، مضيفًا أنه على الرغم من الجهود المبذولة، لا تزال هناك تحديات كبيرة تعترض طريق المستثمرين في سوريا، متعلقة بضعف البنية التحتية الصناعية وارتفاع تكاليف التشغيل، اللذين يقفان كحجر عثرة أمام التحسينات المطلوبة.

ويواجه القطاع، أيضًا، صعوبات ناجمة عن التضخم وندرة التمويل اللازم لمشاريع استثمارية كبيرة، كما أن البيئة الأمنية والسياسية تلعب دورًا محوريًا في جذب المستثمرين، حيث يفضل الكثيرون الانتقال إلى بلدان أكثر استقرارًا.

متطلبات المرحلة المقبلة

يتطلب الواقع الصناعي، في المرحلة الحالية والمقبلة، بالنسبة للصناعي تيسير دركلت، إصدار قوانين تراعي المرحلة، وفي مقدمتها الحد من الاستيراد، خصوصًا للسلع المنتجة محليًا، وفي حال كان الاستيراد ضروريًا، يقترح رفع الرسوم الجمركية أو الأسعار الاسترشادية لضمان منافسة عادلة إلى حين تحسن ظروف الإنتاج وعودة الانفتاح الاقتصادي.

ولجعل الرؤى المستقبلية قابلة للتحقيق، لا بد لوزارة الاقتصاد والصناعة من متابعة العمل على إعادة هيكلة القطاع من خلال تعزيز الأنظمة والتشريعات الداعمة للشفافية والابتكار، وفقًا للخبير الاقتصادي زكوان قريط.

كما يعد تطوير التعليم التقني والمهني وإدخال التكنولوجيا الحديثة جزءًا أساسيًا من الخطط المستقبلية، لافتًا إلى أن هذه الاستراتيجيات تحتاج إلى تعاون وثيق بين الحكومة والقطاع الخاص، والتعاون مع منظمات دولية لتحقيق النجاح المنشود.

وأضاف أنه بعد إلغاء قانون “قيصر”، في 11 من كانون الأول الحالي، هناك فرص جديدة للنهوض بالاقتصاد السوري، مشيرًا إلى أن هذا الإلغاء قد يمهد الطريق لتوسيع الشراكات الدولية وزيادة الاستثمارات الخارجية، والتي تعتبر دعامة أساسية لإنعاش الاقتصاد.

كما أن فتح الأبواب أمام التعاون الدولي من شأنه أن يعزز التدفقات المالية ويقوم بتحسين المناخ الاستثماري، مما يشجع المستثمرين على العودة إلى السوق السورية.

واختتم قريط حديثه بأن نجاح هذه السياسات يعتمد على قدرة الحكومة السورية على مواجهة التحديات الحالية وجذب استثمارات محلية وأجنبية، وأن الهدف النهائي هو تحقيق الاستقرار والازدهار الاقتصادي في سوريا عبر استراتيجية شاملة وطويلة الأمد تشمل جميع الأطراف المعنية.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.