الاستهلاك المحلي خيار صيني في مواجهة ضغوط رسوم ترمب الجمركية

تضفي حملة الرسوم الجمركية العالمية، التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، طابعاً ملحاً على حاجة بكين، لمواجهة أحد أكبر تحدياتها الداخلية، وهو تعزيز الإنفاق المحلي في محاولة لإعادة التوازن إلى ثاني أكبر اقتصادات في العالم، وفق صحيفة “وول ستريت جورنال”.
وذكرت الصحيفة الأميركية، السبت، أن بكين تعهدت بالفعل بتعزيز الاستهلاك المحلي، في إطار جهد أوسع يهدف إلى تقوية اقتصادها والحفاظ على مسار نموه. وكان ذلك حتى قبل أن يُعلن ترمب فرض رسوم إضافية بنسبة 34% على واردات السلع الصينية.
والوقت الراهن، يعتقد خبراء اقتصاديون، أنه أصبح من الضروري أكثر من أي وقت مضى أن تجد الصين بديلاً عن التصدير كمحرك للنمو الاقتصادي، في ظل تحركات ترمب التي تسببت في هزة جديدة في منظومة التجارة العالمية، وفق الصحيفة.
ففي العام الماضي، شكلت الصادرات نحو ثلث معدل النمو الاقتصادي الرسمي للصين البالغ 5%، وهي أعلى نسبة تُسجل منذ عام 1997، بحسب بيانات حكومية. أما هذا العام، فقد حددت الصين هدفاً لتحقيق نمو في الناتج المحلي الإجمالي بنحو 5% مجدداً، وهو هدف طموح يرى بعض المحللين أنه سيتطلب إنفاقاً حكومياً “أكثر قوة”.
وهوت أسواق الأسهم العالمية بقوة عقب رد الصين الانتقامي وتصريحات ترمب، الجمعة، بأنه لن يغير مساره، ما أدى إلى استمرار الخسائر الحادة التي أعقبت إعلان ترمب الأولي عن الرسوم الجمركية في وقت سابق من الأسبوع الجاري، ما دفع الأسواق لتسجيل أكبر خسائرها منذ جائحة فيروس كورونا.
وقال بنك “جي. بي مورجان” الاستثماري، إنه يرى الآن فرصة بنسبة 60% لحدوث ركود اقتصادي عالمي بحلول نهاية العام الجاري، بعد أن كانت النسبة تبلغ 40% في السابق.
أسوأ سيناريو تجاري
وكتب المحللان الاقتصاديان توماس جاتلي، ووي هي، من شركة “جافيكال دراجونوميكس” Gavekal Dragonomics الصينية للأبحاث، بعد إعلان ترمب عن خطته الجمركية: “هذا أسوأ سيناريو تجاري بالنسبة للصين”. وأضافا: “صناع السياسات الصينيون سيحتاجون إلى تكثيف جهود التحفيز استجابةً لذلك”.
وأعلن ترمب، فرض حزمة رسوم جمركية، الأربعاء، بنسبة 10% على جميع الواردات إلى الولايات المتحدة، في خطوة تُذكي الحرب التجارية التي بدأها مع عودته إلى البيت الأبيض، فيما وصفه بـ”يوم التحرير” للاقتصاد الأميركي.
ومن المتوقع أن تستهدف الرسوم، القطاع الصناعي الصيني من عدة جبهات؛ وبحسب تقديرات خبراء اقتصاد، الرسوم الجديدة، إلى جانب الرسوم التي فرضها سابقاً كل من ترمب والرئيس السابق جو بايدن، سترفع متوسط معدل الرسوم على الواردات الصينية إلى نحو 70%.
وأضافت الصحيفة، أن المصنعين في الصين، باتوا عاجزين بشكل متزايد عن تحمل التكاليف من أجل الحفاظ على جاذبية الأسعار للمشترين الأميركيين. كما يُتوقع أن تواجه السلع القادمة من العديد من دول جنوب شرق آسيا، حيث أنشأت شركات صينية مصانع في السنوات الأخيرة، وتستورد قطع غيار من الصين، رسوماً مرتفعة أيضاً.
على نحو أوسع نطاقاً، يبدو أن التباطؤ العالمي المتوقع بفعل الرسوم الجمركية الشاملة التي يفرضها ترمب سيؤدي إلى تقليص الطلب العالمي على البضائع الصينية.
وبالنسبة لاقتصاد يعتمد بشكل كبير على التصدير مثل الصين، فإن هذه الرسوم تمثل “خبراً سيئاً”. وتشير تقديرات بعض شركات الأبحاث في “وول ستريت” إلى أن الرسوم المعلنة قد تؤدي إلى خفض معدل نمو الاقتصاد الصيني هذا العام بنقطة إلى نقطتين مئويتين تقريباً، بحسب الصحيفة.
وبعد أن ردت الصين، الجمعة، بفرض رسوم جديدة بنسبة 34% على جميع السلع الأميركية إلى جانب إجراءات انتقامية أخرى، بات من غير المرجح التوصل إلى تسوية سريعة للحرب التجارية المتصاعدة بين البلدين، خاصة مع تصريح ترمب بأن الصين “تصرفت بشكل خاطئ”.
وقال روري جرين، كبير الاقتصاديين المعنيين بالصين في مؤسسة “تي إس لومبارد”، للصحيفة، إن رد الصين السريع على الرسوم “يشير إلى أن الجهود لدعم النشاط الاقتصادي المحلي ستكون سريعة”، مضيفاً: “نعتقد أن الطلب المحلي يمكن أن يعوض تأثير الصادرات”.
نهج محفوف بالمخاطر
ولعقود طويلة، اعتمدت الصين في تحقيق نموها السريع على ضخ الأموال في قطاعي التصنيع والبنية التحتية. غير أن هذا النهج يبدو “محفوفاً بالمخاطر” مع فرض الولايات المتحدة ودول أخرى حواجز تجارية على السلع الصينية. ودفع ذلك قادة الصين للبحث عن سبل جديدة للحفاظ على زخم الاقتصاد، وفق “وول ستريت جورنال”.
ويدعو مستشارو الحكومة وخبراء اقتصاديون خارجيون، بمن فيهم العاملون في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بكين منذ زمن طويل إلى إعادة هيكلة اقتصادها ليعتمد بشكل أكبر على الاستهلاك، على غرار النموذج الأميركي. لكن مثل هذه التوصيات قوبلت “بفتور” من الرئيس الصيني شي جين بينج، الذي واصل منح الأولوية للتصنيع، بدافع طموحه إلى تحويل بلاده إلى قوة رائدة في التقنيات المتطورة.
ومع تصاعد المعارضة العالمية للصادرات الصينية، وتزايد الضغوط على النمو، أعلن صناع القرار في الصين الشهر الماضي أن تعزيز الاستهلاك المحلي أصبح الأولوية.
ويرى خبراء اقتصاديون أن الطلب المحلي في الصين، ظل ضعيفاً، لأن الأسر الصينية تشعر بالقلق من المستقبل. فبعد عقود من النمو الاقتصادي السريع، شهد العديد من المواطنين انهياراً حاداً في سوق العقارات، ما أثر سلباً على مدخراتهم.
وبات المستهلكون، الذين يشعرون بالقلق إزاء فقدان الوظائف وتباطؤ الاقتصاد، أكثر تردداً في الإنفاق خلال السنوات الأخيرة. كما أن أصحاب الشركات أصبحوا أكثر ميلاً إلى خفض النفقات، في ظل تقلص هوامش الأرباح.
خيارات محدودة
ووفق “وول ستريت جورنال”، فإنه بالإضافة إلى تعزيز الاستهلاك، لا تملك بكين الكثير من الخيارات للرد على الرسوم الجمركية الجديدة التي فرضها ترمب.
وأوضحت “وول ستريت جورنال”، أن الصين استخدمت في السابق، خلال الولاية الأولى لترمب، خيار إضعاف عملتها من أجل جعل صادراتها أرخص وزيادة الطلب الخارجي على السلع الصينية.
غير أن خبراء اقتصاد يقولون، إن بكين ستكون مترددة في خفض قيمة عملتها بشكل كبير هذه المرة، نظراً لأن ذلك قد يثير غضباً إضافياً من الرئيس الأميركي، كما قد يؤدي إلى خروج مزيد من رؤوس الأموال من الصين، مما قد يُحدث حالة من عدم الاستقرار الأوسع في النظام المالي الصيني.
أما الخيارات الأكثر ترجيحاً، وفق الاقتصاديين، فتشمل خفض أسعار الفائدة، وزيادة مشتريات السندات لتعزيز السيولة، ورفع الإنفاق المالي بهدف تحفيز الاقتصاد المحلي.
وفي هذا العام، أطلق المصرف المركزي الصيني ووزارة المالية إشارات على التيسير، من خلال تعديل آلية تسعير بهدف خفض تكاليف الاقتراض على البنوك، والتعهد بضخ سيولة في أكبر المصارف في البلاد.
ويعمل صناع السياسات على توسيع برنامج استبدال السلع القديمة لتعزيز الإنفاق الاستهلاكي، وقد خصصوا ما يعادل نحو 40 مليار دولار من السندات لهذه المبادرات خلال هذا العام. وارتفعت مبيعات الأجهزة المنزلية وغيرها من السلع الاستهلاكية، بحسب الأرقام الرسمية.
والشهر الماضي، طرحت الصين خطة سياسية لتوسيع الاستهلاك المحلي، تضمنت رفع الأجور، وزيادة المعاشات التقاعدية، وتقديم حوافز للإنجاب، والعمل على استقرار أسواق الأسهم والعقارات.
ورغم أن صناع القرار لم يعلنوا بعد عن تفاصيل محددة بشأن كيفية تنفيذ هذه المبادرات، فإن خبراء اقتصاد ومستشارين حكوميين دعوا منذ فترة طويلة إلى توسيع نطاق الخدمات الاجتماعية للأسر، مثل توفير دعم أكبر للملايين من العمال المهاجرين في الصين، الذين لا يزال وصولهم إلى خدمات الرعاية الصحية والتعليم محدوداً.
ومن المقرر أن يعقد المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني، المكون من 24 عضواً، اجتماعاً خلال الشهر الجاري، ما قد يشكل فرصة للإعلان عن تفاصيل إضافية أو إجراءات تحفيزية جديدة.