تبحث سوريا اليوم عن مسارات جديدة لإعادة البناء وتحقيق قدر من التعافي المستدام، بعد سنوات طويلة من الحرب وما خلّفته من دمار واسع في البنية التحتية والاقتصاد.
وبين ضغوط المعيشة، وشحّ الموارد، وتراجع الخدمات الأساسية، يبرز مفهوم “الاقتصاد الأخضر” كأحد الخيارات المطروحة على طاولة النقاش الرسمي والاقتصادي، بوصفه مدخلًا للتنمية طويل الأمد، وفرصة لإعادة الإعمار وفق أسس بيئية أكثر استدامة.
غير أن هذا التحول يصطدم بجملة من التحديات الاقتصادية والتقنية والتشريعية، تفرض واقعًا مختلفًا عن الطموحات المعلنة، وتطرح تساؤلات حول القدرة على المواءمة بين متطلبات العيش اليومي ومتطلبات التنمية الخضراء.
انتقال تدريجي محفوف بالمخاطر
يؤكد معاون وزير الإدارة المحلية والبيئة لشؤون البيئة، يوسف حسان شرف، في حديث إلى، أن التوجه نحو الاقتصاد الأخضر يعكس طموحًا بمستقبل أكثر استدامة، إلا أن الواقع الراهن يفرض تحديات كبيرة أمام هذا الانتقال، ما يتطلب اعتماد استراتيجية تدريجية ومدروسة لتفادي العقبات المحتملة.
ويشير إلى أن الجهود تتركز على تحقيق العدالة في الانتقال، وجذب التمويل المناخي، وتمويل المشاريع من خلال الصناديق الداعمة، إلى جانب السعي لتوطين التكنولوجيا وبناء القدرات.
ويحذر شرف من انعكاسات محتملة للتحول، تتمثل في زيادة التكاليف، وانخفاض فرص التنافسية الاقتصادية، ومخاطر الانتقال غير العادل، فضلًا عن تهديد الصادرات التقليدية، إذ تواجه سياسات “الاقتصاد الأخضر” في سوريا تحديات كبيرة، في مقدمتها الضغوط الاقتصادية، ومحدودية الموارد، وصعوبات استيراد التقنيات الخضراء بسبب العقوبات والقيود، ما ينعكس على ضعف جذب الاستثمارات.
كما تبرز الحاجة إلى اكتمال تطوير الأطر التشريعية الداعمة بالتنسيق بين الجهات المختلفة، ورفع مستوى الوعي المجتمعي في ظل الظروف المعيشية الصعبة، إضافة إلى التكاليف الباهظة المتوقعة لعملية التحول.
“الاقتصاد الأخضر” في مسار إعادة الإعمار
تعمل الحكومة السورية، على دمج مبادئ الاقتصاد الأخضر ضمن خطط التنمية وإعادة الإعمار، بحسب ما كشفه معاون الوزير، من خلال الاستثمار في مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، باعتبارها جزءًا من خطة وطنية للتعافي.
كما تشمل الجهود إعادة تشجير المناطق المتضررة، وإزالة التلوث عن مصادر المياه، وتحسين إدارة النفايات، واستعادة التوازن البيئي، إضافة إلى التوجه نحو الزراعة المستدامة كخيار استراتيجي لتحقيق الأمن الغذائي.
وتطرح التنمية المستدامة كمبدأ أساسي في المحافل الدولية، ولا سيما في مؤتمرات المناخ، حيث دعت سوريا إلى تعزيز التعاون في مجالات التنمية الخضراء، مع العمل على حضور مفاهيم الاستدامة والاقتصاد الأخضر ضمن المشاريع القائمة والمستقبلية.
وتسخر وزارة الإدارة المحلية والبيئة، وفق شرف، جهودًا مؤسسية وتقنية لتعزيز الاقتصاد الدائري وكفاءة الطاقة والاستدامة، ولا سيما في مرحلة إعادة الإعمار وتأهيل البنى التحتية.
وتشمل هذه الجهود التوجه نحو الطاقة المتجددة للتخفيف من عجز الكهرباء، واعتماد إجراءات مستدامة في إدارة النفايات، ودعم الأبحاث في مجالات الطاقة المتجددة والزراعة المستدامة.
كما يجري التأكيد على تطبيق أسس تقييم الأثر البيئي للمشاريع، وإعادة توزيع النشاطات الصناعية وفق المعايير البيئية، بما يهدف إلى حماية الموارد الطبيعية وتحقيق التنمية المستدامة، لافتًا أن هذه التوجهات لا تزال بحاجة إلى مزيد من الجهود لتبني استراتيجية وطنية شاملة للاقتصاد الأخضر.
المستشار التنفيذي لشؤون التخطيط والمتابعة في وزارة الاقتصاد والصناعة، رازي محيي الدين، قال ل، إن الاقتصاد الأخضر يشكل فرصة استراتيجية لتعزيز التنمية المستدامة رغم التحديات، لما يوفره من استخدام أكثر كفاءة للموارد، وخفض للتكاليف على المدى الطويل، إلى جانب دعمه للشمول الاقتصادي وتقليل الضغط على البيئة.
ويؤكد أن التحول ممكن عبر خطوات تدريجية ومرنة، مع التركيز على مشاريع ذات أثر اقتصادي مباشر، مثل الطاقة الشمسية، وإدارة النفايات، والزراعة المستدامة، بما يتوافق مع أولويات إعادة الإعمار وتحسين الواقع المعيشي.
وبينما تبقى ملفات إعادة الإعمار، وتوفير فرص العمل، واستقرار الأسواق أولوية، فإن دمج مبادرات “الاقتصاد الأخضر” ضمن هذه الملفات يحقق قيمة مضافة مزدوجة تتمثل في التنمية المستدامة ورفع كفاءة الموارد.
بنى تحتية متهالكة وفرصة إعادة البناء
تعاني البنية التحتية في سوريا من تدهور واسع يشمل مختلف القطاعات الحيوية، ما يزيد من تحديات الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر.
ففي قطاع الطاقة، أوضح شرف أن الشبكات الكهربائية تعرضت لدمار كبير، ويقل الإنتاج عن نصف الاحتياج الفعلي، رغم توافر مصادر الطاقة المتجددة.
وفي النقل، تدهورت شبكات الطرق وتَقادَمَت المركبات، مشيرًا إلى إمكانية مستقبلية للتحول إلى النقل الكهربائي وبناء شبكات مستدامة.
أما في قطاع المياه، فتعاني الشبكات من دمار واسع، وتتعرض المياه الجوفية للتلوث والاستنزاف.
في حين يفتقر قطاع النفايات إلى بنية تحتية فعالة مع انتشار المكبات العشوائية، ما يفتح المجال أمام تأسيس نظام متكامل من الصفر.
وتقوم الاستراتيجية الحالية بحسب معاون الوزير لشؤون البيئة، على التدرج في التنفيذ، والتركيز على الحلول اللامركزية والصغيرة، ودمج الاستدامة في مشاريع إعادة الإعمار، مع إعطاء أولوية لقطاعي الطاقة والمياه.
ورغم التحديات، يرى شرف أن الواقع القائم يتيح فرصة لبناء بنية تحتية خضراء جديدة بدل الاكتفاء بإصلاح النظام التقليدي.
ويشدد رازي محيي الدين على أن قطاعات الطاقة المتجددة، والزراعة المستدامة، والنقل من أكثر القطاعات قابلية لبدء التحول الأخضر، نظرًا لقدرتها على تحقيق نتائج ملموسة سريعة وتحفيز الاستثمار.
كما تمثل الظروف المناخية في سوريا فرصة حقيقية للتحول، في ظل غناها بالشمس والرياح والمصادر الطبيعية، ما يجعل التحول الأخضر خيارًا اقتصاديًا وبيئيًا في آن واحد.
إجراءات عملية في ثلاثة قطاعات
عرض يوسف حسان شرف، في حديثه ل، عددًا من التشريعات التي صدرت لتعزيز “الاقتصاد الأخضر”، ففي قطاع الطاقة المتجددة، صدر قانون استثمار يمنح إعفاءات ضريبية وجمركية، ويسمح للقطاع الخاص ببيع الطاقة الفائضة، إلى جانب تنفيذ مشاريع نموذجية للطاقة الشمسية في المناطق الصناعية والمباني الحكومية، مع تبسيط إجراءات الترخيص والاستيراد.
بالإضافة إلى القرار رقم “154” لعام 2025 لتنظيم مشاريع الطاقة المتجددة وربطها بالشبكة العامة، ويشمل المشاريع الصغيرة باستطاعة بين 2 و10 ميغاواط، مع منح تراخيص لمدة 20 عامًا قابلة للتجديد.
وفي قطاع إدارة النفايات، يجري العمل على إعادة هيكلة القطاع، وإنشاء وحدات متخصصة في البلديات، مع إدراج مشاريع التدوير ضمن الأولويات، ومنح إعفاءات جمركية وأراضٍ بأسعار رمزية، إضافة إلى تنفيذ مشاريع تجريبية بالتعاون مع منظمات دولية.
أما في مجال الزراعة المستدامة، فقد جرى دعم الزراعة العضوية عبر إصدار شهادات وتقديم دعم فني، وتنفيذ مشاريع الري الحديث في المناطق الجافة، إلى جانب توفير تسهيلات وقروض ميسرة للمستثمرين في هذا المجال.
وبيّن شرف أن التوجهات الحكومية تعمل على تحديث الأطر التشريعية والتنظيمية لدعم المشاريع الخضراء، ولا سيما في قطاع الطاقة المتجددة، ويشمل ذلك العمل على تعديل قانون البيئة رقم “12” لعام 2012 ليضم مفاهيم الاقتصاد الأخضر، مع إدراج مواد تحفز المشاريع الصديقة للبيئة.
كما يجري العمل على تطوير قانون الاستثمار رقم “18” لعام 2021، لمنح حوافز إضافية للمشاريع الخضراء، خاصة في مجالي الطاقة المتجددة وإدارة النفايات.
كما تعمل الجهات المعنية أيضًا على تحديث المواصفات البيئية الفنية للقطاعات المختلفة، ووضع معايير للبناء الأخضر وكفاءة الطاقة، إلى جانب دراسة إعفاءات للمشاريع المستدامة ووضع أسس تشجع المنتجات الصديقة للبيئة.
بوابة محتملة للتمويل الدولي
ترى وزارة البيئة أن انخراط سوريا في العمل البيئي والمناخي العالمي، وانضمامها إلى الاتفاقيات البيئية، يشكّل مدخلًا استراتيجيًا لجذب التمويل الدولي وربط إعادة الإعمار بمبادئ الاقتصاد الأخضر.
غير أن هذا المسار، وفق شرف، يحتاج إلى دراسة دقيقة، واعتماد استراتيجية تدريجية تضمن الانتقال العادل، وتأخذ بالحسبان الفجوة بين الطموح والواقع والتحديات، وضرورة مواءمة الأنظمة الخضراء مع البنية التحتية القائمة، إلى جانب موازنة التنمية بين المناطق.
بالمقابل، يرى المستشار التنفيذي لشؤون التخطيط والمتابعة في وزارة الاقتصاد والصناعة، رازي محيي الدين، أنه يمكن للمجتمع المحلي والقطاع الخاص أن يشاركا في التحول عبر الاستثمار في مشاريع الطاقة الشمسية والزراعة الذكية، والمبادرات المجتمعية لإعادة التدوير والحفاظ على الموارد، إلى جانب عقد شراكات مع الحكومة لتطبيق معايير الاستدامة في الإنتاج والخدمات.
ويرى محيي الدين أن الاقتصاد الأخضر يشكّل مدخلًا رئيسًا لجذب التمويل الدولي لإعادة الإعمار، في ظل توجه المؤسسات الدولية نحو دعم المشاريع المستدامة والشفافة، بما يوفر رأس المال والخبرة الفنية لتحقيق تعافٍ اقتصادي مستدام.
فرص تشغيلية ونمو اقتصادي
يمكن للاقتصاد الأخضر، بحسب محيي الدين، أن يسهم في خلق فرص عمل جديدة في مجالات الطاقة المستدامة والزراعة الذكية، وتحسين كفاءة استخدام الموارد، وخفض تكاليف الإنتاج، إلى جانب جذب الاستثمارات الدولية المهتمة بالاستدامة، بما يدعم النمو الاقتصادي ويرفع مؤشرات التنمية.
في المقابل، تبرز تحديات التمويل، والتشريعات، والبنية التحتية كعقبات رئيسة، إلا أن تجاوزها ممكن عبر الشراكات الدولية والدعم الإقليمي، ولا سيما من السعودية والمستثمرين العرب.
سوريا على خطى رواندا.. محاكاة تتطلب الاستقرار وإدماج المجتمع
مرتبط
المصدر: عنب بلدي
