اخر الاخبار

“البعث” ومسرح الدمى –

إبراهيم العلوش

التغييرات التي أجراها بشار الأسد على قيادات حزب “البعث” لم تلفت الانتباه، ربما لأنها اعتيادية في حزب وافق على رهن نفسه وجمهوره للمخابرات والعسكر منذ وصوله إلى الحكم عام 1963.

عيّن بشار الأسد، الأسبوع الماضي، نفسه أمينًا عامًا لـ”البعث”، وعيّن قيادة مركزية للحزب، الذي يضع الوحدة العربية (التي لا يزال يبشر بها) أول أهدافه، رغم أن سلوك قادته بيّن أنهم ألد أعداء الوحدة، ليس الوحدة العربية فقط، بل وحدة الشعب السوري أيضًا.

وبموجب هذه التعيينات تم إقصاء الأمين القطري المساعد، هلال الهلال، الذي حمل السلاح ضد السوريين وشهد استقدام الإيرانيين والروس وتهجير المعارضين بحجة أنهم رجعيون وعملاء، ووحده الرفيق القائد بشار الأسد، كما يقول في تسجيل له، استطاع التصدي للمؤامرة الأمريكية.

هلال الهلال نموذج القيادي البعثي المستسلم لأوامر قيادته، من مواليد عام 1966 في اعزاز حلب، وكان أمين شعبة العمال في حلب 2004، وهي الشعبة الحزبية التي كان لها دور مشهود سابقًا في أحداث الثمانينيات، إذ كان شبيحتها يملؤون الصفوف بعد وصول الوحدات الخاصة والفرقة الثالثة اللتين اجتاحتا حلب عام 1980، ونكلتا بالأهالي ونهبتهم بحجة التفتيش عن “الإخوان المسلمين”، إذ إن البعثيين لم يتجرؤوا على الدفاع عن النظام حينها إلا بعد وصول قوات الجيش. وقد أسهم هلال الهلال عندما كان أمينًا لفرع الحزب بحلب في العام 2011 بتأسيس ميليشيات الدفاع الوطني، التابعة لقيادة إيرانية.

يذكر سامي الجندي في كتابه “البعث” الصادر عن دار النهار 1969، أن العسكر كانوا هم أصحاب القرار داخل الحزب، والمدنيون لا يعرفون بالقرارات إلا بعد اتخاذها من قبل اللجنة العسكرية التي كان يرأسها اللواء محمد عمران، وهذا ينطبق على مؤسسي “البعث”، بمن فيهم ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، ورغم تولي البيطار رئاسة الوزراء في بداية ثورة “البعث” فإنه لم يكن قادرًا على اتخاذ أي قرار، إلى درجة أن المدنيين في إحدى الجلسات طلبوا من العسكر الدخول في النقاش معهم بدلًا من الاختلاء بأنفسهم قبل اتخاذ القرارات، وحتى أمين الحافظ، الذي تولى عددًا من المناصب الحزبية والحكومية يفوق عدد أصابع يديه ورجليه، فإنه لم يكن قادرًا على نقل أو تعيين موظف صغير، كما يقول باتريك سيل في كتابه عن الأسد.

ظل حزب “البعث” طوال الـ60 عامًا الماضية مصدرًا للمنافقين والمخبرين والشبيحة، ولم تخرج من صفوف قياداته القطرية ولا القومية شخصيات وطنية قامت بدور له معنى تاريخي حتى الآن، إذ لم نجد في صفوف “البعث” من يحتج على غياب الحريات، ولا على التعذيب في السجون، ولا على التوريث، ولا على التدهور الاقتصادي والمعيشي، ولا على التهجير، وصولًا إلى عدم احتجاج أي بعثي في القيادات القطرية والمركزية على فقدان سوريا لاستقلالها وتسليم البلاد إلى إيران وروسيا.

استمر القيادي البعثي ظلًا لرجل المخابرات، ويمشي محني الرأس خلفه، ويحمل تقريرًا ينتظر اللحظة المناسبة لتسليمه إلى الرفيق أمين الفرع أو إلى الأمين العام السيد الرئيس، علّه يحظى بمنصب يتضمن تسليمه مسدسًا، أو سيارة، أو إطلاق يده في المنطقة التي يشرف عليها، ويكتب التقارير بحق محيطه الذي يستغله لأسباب اقتصادية، أو من أجل الانتقام الاجتماعي والصراع على توافه الأمور.

وصل تعداد البعثيين الذين تم تنسيب معظمهم قسرًا إلى 1.2 مليون حتى العام 2010، إذ إن الأوراق المطلوبة في كثير من الوظائف في التعليم والنقابات والاتحادات وغيرها تفرض أن يكون طالب العمل بعثيًا، وإذا كان الموقع مرموقًا لا بد من تزكية الرفيق البعثي من قبل جهاز أمني أو من قبل الأجهزة الرديفة، مثل اتحاد شبيبة الثورة أو اتحاد الطلبة أو المنظمات الشعبية مثل الاتحاد العام للفلاحين أو نقابات العمال، التي صارت مرتعًا خصبًا للمنافقين وللمخبرين.

محاولة النظام إصدار نسخة جديدة من “البعث” خلال الأيام الماضية كانت سيئة الإخراج، وهي تفشل في محاولة إفهام الدول العربية بأن “البعث” لا يزال عربيًا ولم يصبح كله إيرانيًا، وهي محاولة من قادة وأمراء الحرب للقول إن العرب ليسوا مجرد رعاة إبل وغزاة لسوريا، كما كانوا يرددون مع وصول الإيرانيين إلى عرين الأسد.

ورغم عداء الإيرانيين لـ”البعث”، الذي حلّوه مع الأمريكيين في العراق، فإنهم قبلوا “البعث” السوري الذي كانت أجهزة المخابرات قد طوعته وأعادت تركيبه ليصلح لكل الاستخدامات، بما فيها الاستخدام الداعشي، إذ إن الكثير من قادة الفرق والشعب الحزبية الذين اعتادوا الخضوع والانتهازية قد قبلوا الانخراط في صفوف “داعش”، وعندما انهارت انضموا إلى صفوف “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وفي صفوف “الحرس الثوري الإيراني”، وغيرهما من تنظيمات ترضي غريزة الخضوع من جهة، وغريزة ممارسة السلطة ولو كانت تحت قيادة الشيطان.

نظام “الكبتاجون” المفلس يعود إلى دفاتره القديمة في “البعث”، ويحاول أن يجمّل صورته أمام الأنظمة العربية التي ترحب بإعادة تدويره، لكنه مع خطوة تعيين القيادة المركزية وخطاب الأسد المكرور أمام الدمى التي اختارها بنفسه ولنفسه، فإنه يعيد إثارة السخرية من قبل السوريين أولًا، ومن قبل الجهات العربية التي تحاول أن تستسيغ طعم هذا النظام المتعفن.

المصدر: عنب بلدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *